الجمال بين السَلَف والخَلَف.. مراد داغوم

الجمال بين السَلَف والخَلَف.. مراد داغوم
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا المائدة: 104
لَيسَ كَكَلامِ الربِّ حِجىً تَعْضِدُ الرأيَ وتَرْفِدُ المعنى بِبِليغِ القول! في شرقنا، يَطمَئِنُّ القومُ إلى سَدادِ مناهِجَ من سبقوهم كَمُسَلَّمَةٍ قاطعة؛ والاطمئنانُ والشَكُّ متنافران. الشكُّ حيرةٌ بين نقيضين بدون ترجيح، وهذا ضروري في المنطق الإغريقي، ومحدود بضوابط في الفكر العربي القديم، وهو أساسيٌّ في المنهج الديكارتي المعروف. فالثابتُ من الفكرِ يقينٌ لا جدال حوله، أمرٌ يقارب الإيمان الدينيّ، والثوابت العِلمية المدعومة بالبراهين أو المسلَّمات.
أما ما كان منه متحوِّلاً بمعنى تَغَيُّر قيمته تبعاً لاختلاف حال ما، فهو محطَّ أحكامٍ مُتعددة قد تكون متضادّةً أحياناً، ويُحاكَمُ عبر اختلاف منظور الرؤية، بأحكام لا يمكن الركون إلى أحدها على أنه الصحيح بالمُطلق. الرياضيات، مادة لا تقبل إلا المحسوس والمجرد من الأفكار، نتائجها محسومة بدليل قاطع.
الجمال بين السَلَف والخَلَف
أما القضايا التي يختلف حولها القوم بحسب هوى أفئدتهم، فهي فكر متحول، ومادة جدلية بمعنى الكلمة، وهذا ما جعل الفلاسفة منذ الإغريق وحتى يومنا يختلفون حول مفهوم واضح حول المشكلة الفلسفية السابعة: “الفن والجمال” !
حتى اليوم، لم يدَّعِ أحد الفلاسفة وصوله إلى المفهوم الصحيح للجمال، نظراً لاختلاف الرؤى حول أي موضوع جماليٍّ يتضمنه العمل الفني. بل صاغ كلٌّ منهم نظرية مُستنداً إلى ما وافق عليه من فكر أسلافه، مستبعداً ما لم يرضَ عنه منها، مُضيفاً ما أدَّت إليه تجربته من نتائج لا يجزم بالمطلق صحتها، تاركاً لمن سيليه مجالاً آخر من الجدل والحكم. وبالعودة إلى جغرافيتنا، اقتصر هذا الوعي على فئة قليلة من الفلاسفة، ومن القلائل الذين خاضوا في هذا المجال هو “فؤاد زكريا” الذي اقتصرت أبحاثه على دراسات عن الجمال عند فلاسفة الغرب، ولعل الكتاب الأكثر أهمية له هو (آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة) مخصصاً بضع صفحات لتناول (نظريات حديثة في فلسفة الفن)، أما كتابه (التعبير الموسيقي) فهو مرجع كامل لكل ما يريده الباحث في هذا الخصوص الجزئيّ من فلسفة الجمال.
يصلح كل باب في هذا الكتاب أن يكون مادة ثريّة مرجعيّة للباحثين وطالبي العلم ومحبّي المعرفة على السواء. أما (زكي نجيب محمود)، فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، أستاذ فؤاد زكريا، صاحب المؤلفات الكثيرة، فقد خصص كتابيه: (في تحديث الثقافة العربية) و(في فلسفة النقد) للتعرض إلى كل ما يهم الباحث معرفته نظرياً من قضايا النقد الفني.
كما تعترضنا أحياناً مقالات هنا وهناك تتناول الموضوع بعموميات مفيدة من حيث التبويب، قاصرة من حيث الإمداد بالمعلومات الاختصاصية الكافية. مجالٌ معرفي واسع في تفرعاته ومضمونه، وضيق جداً في انتشاره على الصعيدين المختص والشعبي.
هذا النوع من المعرفة هو الضرورة القصوى للوصول إلى مستوى مقبول من المقدرة على محاكمة الأمور الجمالية، لكن المؤسف حقاً عدم نشره بين المختصين وتركه تراثاً مخزونا على الرفوف. حيث تخلو منه المناهج المدرسية بالرغم من تضمنها حشوا غير ذي فائدة، ومناهج التعليم المختص الجامعي، وهو مهمل تماماً عند النقابات المهنية المختصة، والجهات الإعلامية والثقافية التي يُضطر بعض العاملين فيها إلى طرح قضايا ذات علاقة بدون أي إلمام بمبادئ هذا المجال، وهذا ما يصرف تفكير النشء الجديد عن الحقيقة ويدفعهم نحو الخيارات الخاطئة عندما يتعلق الأمر بأي موضوع جمالي فني.
وهكذا نعود إلى مقدمة المقال، حيث يراوح الجيل الأخير، مع من سبقوه، في المكان ذاته عند اضطرارهم للحكم على قضية جمالية فنية إلى اعتماد المبادئ ذاتها التي اعتاد أسلافهم اعتمادها لتقدير قيمة العمل الفني، مع إصرار على صحة المحاكمة تصل إلى درجة التقديس أحياناً. ولا يقتصر الأمر على الجيل الأخير، أو على الجهات الرسمية؛ فمنصات التواصل الاجتماعي تلعب دوراً خطيراً في هذا المجال. عندما يوظف السلف الصالح معرفته الفقيرة ومعلوماته المتهتكة كمصادر مقدسة للمحاكمة متستراً بألقاب في غير الاختصاص المعني، وتجمع منصته كتلة متنوعة من التُبَّعِ المستعدين لتصديق معلومة سواد اللبن طالما أنها من سيد الصفحة، عندئذٍ تغدو أي محاولة ولو لمجرد الإشارة للحقائق المرجعية الاختصاصية جريمة يعاقب مركتبها بالنفي.
.
*مراد داغوم.. مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا
.
-لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews