ثرثرة حول الإبداع .. مراد داغوم
ثرثرة حول الإبداع .. مراد داغوم
تتفق الموسوعات العالمية على تعريف الإبداع Creativity، بأنه تقديم ما هو جديد لا سابق له، وبمعنى أوضح، هو “خلق” بمعنى الكلمة. عندما تضع قرص CD صوتياً في جهاز استماع الـCD (البلاير)، سيقوم هذا البلاير بإسماعك ما يتضمنه القرص بحسب إمكانيات هذا البلاير، وعندما تضع القرص ذاته في بلاير آخر ستسمع المادة ذاتها ولكن وفقاً لإمكانيات البلاير الثاني.
.
وهكذا… أنت هنا أمام عملية “عرض” أو “إعادة تقديم” مُسْبَقَةُ الإعداد، لا خيار فيها لخلق ما هو جديد مُختلِف. بهذا المعنى، ينحسر مجال الإبداع عن كثير من العمليات المتفق عليها، ويتَّضِح أكثر في أخرى. فأنت تصادف الإبداع بنسبة عالية عند التشكيليين والأدباء والمؤلفين أكثر من غيرهم، لأن عملهم مُتَّسِمٌ بالخلق حصراً، فإن لوحظ أبسط تقليد أو أي تشابه، سينتفي الإبداع، ونصبح أمام عملية محاكاة مع فروق تمييزية بين الأصل والمُحدّث. لا تنحصر هذه العملية في المهن الفنية كما هو معروف، بل تتعداها إلى أي مهنة يتوصل ممارسُها إلى تقديم ما لم يسبق وجوده، فأنت لا تعتبر شيف المطبخ مبدعاً عندما يُقدم لك وجبة معروفة ولكن بأسلوبه الخاص، لكنه سيكون مبدعاً حقاً عندما يُقدم نوعاً لم تسبق معرفته من قبل الناس.
.
سأضرب لك مثلاً قد تجده مضحكاً: (آيس كريم العدس المشوي)ّ! أما أي وجبة أخرى يقدمها لك بأسلوبه الخاص فهي إعادة تقديم ما هو معروف، إن زيادة مُكَوِّنٍ جديد ليست مقنعة كفاية لتعتبر ما قدمه لك عملاً إبداعياً. بالعودة إلى المهن الفنية، تعترضك مشاكل منطقية عندما تحاكم عملاً فنياً انطلاقاً من مبادئ التكوين الجديد، مشاكل من نوع صعوبة تمييز حالتين، بين الارتكان إلى المقدرات الخاصة المكتسبة للفنان التي تُميِّز عمله عن غيره وبين كون هذا العمل فريداً لم يسبق لأحد أن يقدمه للناس. فالحالة الأولى تشبه الفرق بين إمكانيات الـCD بلاير وبين إمكانيات الثاني، أما الحالة الثانية فهي بالتأكيد تتأثر بالإمكانيات الخاصة ولكنها تختلف بكونها خلقاً فريداً (إبداعاً).
.
تصادفنا مشكلة منطقية أخرى تتعلق بسابقتها قليلاً، وهي استعمال لغة مطاطية لوصف الإضافات على عمل فني. فهذا التشكيليّ قَدَّم لوحة “الموناليزا” مضيفاً إليها من روحة وإحساسه ومعالجته الخاصة، وذلك العازف قدم لنا معزوفة “تشاردز” وأسبغ عليها من روحه انطباعات مختلفة. كلمات جميلة، “طنّانة”، مطّاطيّة، يمكن تأويلها بحسب مشيئة صاحبها. يمكن تجاوز تلك الأوصاف عندما نعي أن إضافات وتعديلات روح الفنان قدمت قالباً مختلفاً للحلوى ذاتها… لا خلق هنا، مجرد تصرف يمكن لأي فنان أن يقوم به على أي عمل سابق.
.
في الإخراج، يستند المخرج إلى معطيات سبق تكوينها، لكنه “يخلق” بيئة وتصَوُّراً لكل مشهد من خياله وبنات أفكاره، من هنا يكون الإخراج عملاً إبداعياً، ويجتهد الممثل أن “يقلد” الشخصية الموصوفة في النص، مجسِّداً الشخصية بحسب توجيهات المخرج، ومهما تصرف ذاتياً في دوره يبقى مُحاكياً لإبداع المؤلف. في هذا المجال بالذات، يعتمد كثير من المخرجين على الكاريزما الخاصة بكل ممثل، فيوزع الأدوار بحسب ذلك ما إن تكتمل الشخصية في خياله من خلال السيناريو. فأغلب الممثلين نمطيين جداً، تجده هو ذاته غالباً في كل دور “يمتطيه”، فيوكل المخرجُ الدورَ إلى الممثل صاحب النمط المناسب للشخصية. وهذه مشكلة الدرامين في العالم كله وليس عندنا فقط. قلة قليلة منهم يلبسون شخصيات مختلفة في كل دور يقومون به.
.
عندما نقارن مثلاً بين “شين كونري” وبين “آل باتشينو”، سنجد أن “شخصية “كونري” تطغى على أدوار شخصيات الرواية، بكل ما فيه، حركات عينيه، جسمه، ردود أفعاله “المدروسة” على حدث ما، وتزيد الطين بلة لثغته بحرفي السين والشين. أما “باتشينو” فتعجَبُ كيف يتلوَّن في كل دور، متحكماً في كل تفاصيل أدائه. على الخط ذاته، يلفتني دائماً ممثل يقل تصنيفاً عن “باتشينو” بكثير، لكن قدرته على تغيير ذاته أقوى بكثير، برع في أفلام الآكشن، لكن قدم عدة أفلام تستحق الاهتمام، هو “نيكولاس كيج”، إن مشاهدة The city of angeles وFace off تكفي لإظهار براعة هذا “السكّير” الذي طردوه من إحدى حانات لاس فيغاس منذ عدة شهور لدخوله مخموراً حافياً وسلوكه السيء. جدبر بالذكر أنه في فيلم Face off قد جَسّد شخصيتين مختلفتين جذرياً، وقام بذلك ببراعة فائقة.
.
على صعيد الدراما المصرية، تميّز “محمود عبد العزيز” بتلك المقدرة الفريدة على التلّون.. وفي سوريا كان المرحوم “نضال سيجري” صاحب قدرة واضحة على تغيير ذاته في كل دور. أما ما عداهما، فالكل نمطيّون، إلا عندما يدير العمل مخرج مختلف مثل “محمد ملص” الذي استطاع أن يُخرِجَ من “رفيق السبيعي” ما ليس فيه في دوره بفيلم “أحلام المدينة”.
كمحصلة، يتسع مصطلح “الإبداع” ليصبح فضفاضاً جداً عندما يتم خلعه على كل من يثير الإعجاب الشخصي يعمل ما. ويخطو أحياناً مبتعداً عن منطق الخلق عندما يتم مثلاً وصف من يغني واحداً من القدود المعروفة بأنه “مبدع” بمبالغة لا منطقية بسبب نشوة شخصية تختلف دوافعها. وعندما يتم توزيع صفة الإبداع على كل من هبَّ ودبَّ في الفن أو غيره يفقد هذا المطلح ألقه ويغدو تأثيره كتأثير كلمة (مرحبا) عندما يطلقها المرء استجابة لواجب اجتماعي وليس حفاوة ومودة.
.
*مراد داغوم.. مؤلف وموزع وناقد موسيقي- سوريا
.
-لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews