إضاءاتالعناوين الرئيسية

ميكانيزم التقزم .. تفيد أبو الخير

 

ميكانيزم التقزم .. تفيد أبو الخير
في عام 1901 كان عدد سكان إنكلترا ثلاثين مليون إنسان، كانت تحكم الهند ومصر وسواحل شبه الجزيرة العربية ولها نفوذ وقوات في قلب القارة الإفريقية، أوغندا وسواحل آسيا الجنوبية وجزرها التي لا تحصى، والأرجنتين وأستراليا ونيوزيلاندا وجنوب إفريقيا.
كان الرجل الإنكليزي “الجنتلمان” يملك العالم .. نعم، يملك العالم، كيف يملك الرجل العالم؟
ذلك عندما يستطيع الإنسان السفر إلى أي بقعة على هذه الكرة الأرضية، ولا شيء يمنعه، وفوق ذلك تتكفل حكومته بحمايته إن عرفت مكانه، واستطاعت الوصول إليه، فلو علق بريطاني في القطب الشمالي وعرفت الحكومة مكانه ومشكلته.. توجب عليها إنقاذه.
في الشام والمغرب وعمان والبصرة والقاهرة كان المستشرقون والجنود الإنكليز والباحثون الآثاريون “كالنمل في المدن والقرى .. وأغلبهم كانوا من المخابرات البريطانية” كما يقول محمد حسنين هيكل، ورونالد ستورس، ومذكرات مارك سايكس، وغيرهم. بعد أن أماطت لندن اللثام عن مذكرات الحكومة البريطانية ووثائقها بمرور 75 عاماً، كأرشيف متاح. حتى لنا نحن !!” كانوا أولئك جميعاً يتجولون في الشرق يبحثون، ينقبون، يستكشفون، ويجعلون من الناس في الشوارع والأسواق خداماً بشكل غير مباشر، ومن ثم يرفعون نتائج بحوثهم إلى لندن، وهناك يُقًرر مصير ثلث الكرة الأرضية بشعوبها وأممها وتاريخها ومستقبلها وآثارها وثرواتها وأجيالها الجديدة.
ميكانيزم التقزم
إذن فنحن اكتشفنا القصة، عرفنا ما حدث لنا، ومن كان يرسم لنا مستقبلنا، ويكتب لنا تاريخنا، وبالحقيقة لولا علماء الآثار لم نكن لنعرف الآلاف التي سبقت ميلاد المسيح كيف كانت، ولا حتى بعد الميلاد، ثخن قرون الاحتلال والنزاعات والصراعات الداخلية أناخ العقول، وأذل النفوس، نحن والصين والفليبين وشرق إفريقيا وجمهوريات الموز، وكل الأمم التي كانت سجينة عقائدها المتوارثة مثل التطؤف والقبلية والانقسامات البغيضة التي كانت تستثمِر في الجهل لتسيطر من خلاله على الآلاف .. واليوم على الملايين.

نحن عرفنا أن بريطانيا كانت تحرص على حماية المقدسات، وتعلن أنها تتولى حماية الأماكن المقدسة، لأنها تحرص على إدارتها للمستقبل، كلما قرأت مذكرات ومؤلفات المسؤولين البريطانيين واليهود الذين عاشوا بين 1850، و1950 كلما اكتشفت أكثر أننا كأبناء الشرق الأدنى عبء على مسيرة الحضارة. لقد أقروا بما فعلوه، وما فكروا فيه، وكشفوا أوراقهم العتيقة، وأدق التفاصيل في محادثاتهم العلنية والسرية، كانوا يقدمون أنصاف وعود، يفاوضون جميع الشخصيات التي كانت تدعو إلى قيام دولة عربية واحدة، عزيز باشا المصري، ورشيد رضا والشريف حسين، والدكتور عبد الرحمن الشهبندر، ونوري السعيد.كل تلك الأسماء العربية كانت تدعو إلى قيام دولة عربية، ولتحقيق حلمهم طلبوا مساعدة إنكلترا التي كانت لها وجهتا نظر في المنطقة، إحداهما تناقشها مع فرنسا، والأخرى وهي الأمضى، كانت تناقش بين ثلاثة نقاط، القاهرة، دلهي، لندن، لكن حكومة نائب الملك في الهند كانت لها الغلبة، وأقرت إنكلترا برأيها في منع قيام دولة عربية واحدة تشمل العراق والجزيرة العربية وسوريا كلها.

كانت المحددات الرئيسية في التعامل مع المنطقة أولها: فصل الساحل عن الداخل في كل المنطقة العربية، ثانياً: تجزئة السواحل العربية قدر الإمكان، وتنويع مكوناتها، ثالثاً: حماية الأماكن المقدسة وجعلها تحت الوصاية المباشرة للحكومة البريطانية “ذلك للمستقبل من أجل إدارة الصراعات الدينية والتحكم بمساراتها وتياراتها”. ورابعاً: كسر الزاوية القائمة جنوب شرق المتوسط، أي منع الاتحاد بين مصر وسورية. هذا كله كان متفقاً عليه بين البريطانيين أنفسهم قبل الحرب العالمية الأولى وقبل وعد بلفور وقبل سايكس بيكو، الأمور منتهية تقريباً، وكل ما جاء بعد ذلك كان إجراءات.
عرفنا كل ذلك وكشفنا “المؤامرة الدنيئة”، مئة عام ونحن نعرف ماذا حدث، مئة عام من العزلة يا ماركيز، مئة عام على المؤامرة الكبرى، ونحتفل بها كل عام، احتفلنا خمس سنوات بمرور مئة عام على وعد بلفور، وهذا العام سنحتفل بمرور مئة عام على إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين سنة 1922، ونذكر الأجيال القادمة، وماذا بعد؟؟

ألم يحن أوان النهوض، لا أحب أن أستعمل مصطلح “المشكلة أننا كذا.. “، وأرجو أن يعذرني القارئ لماذا أستعيد التاريخ دائماً، لأننا تحولنا إلى ذاكرة سمكية، نعيش “الأمر الواقع”، ومن كثرة اللطمات تهنا عن العد، ومن كثرة الشعارات اختلطت علينا الرموز، وعمت القداسة كل مفرداتنا، وانتشرت التعاويذ على الجدران وفي المَحافظ والجيوب. ما زال الرجل الإنكليزي الذي كان يأتي إلينا قبل مئة عام كسائح ومستشرق وباحث أثري ومخابرات وصحفي.. ما زال بأناقته المعهودة، لا تستطيل لحيته أكثر من ملم واحد، لكنه ما زال يدير الكثير من اللحى، بعلمنا ومعرفتنا.. وربما بمباركتنا.ما الأمر .. هل هناك “غطا ريغار” يخيم على الشرق الأدنى، ما زلنا نعجز عن إزالته من فوق الشريحة العربية، لنخرج إلى مسيرة الحضارة ونسهم فيها بقوة شعوب، وليس كأفراد يدرسون ويعملون في دول غربية. لو كنت باحثاً إنكليزياً في تاريخ الشرق الأدنى، لوضعت كتاباً اسمه : ميكانيزم التقزم آسيا نهضت، الصين مزقت الأثواب الرثة وقامت، فنشرت ظلها على العالم، ولنا في الكوريتين أمثلة لا كلام بعدها، سنغابور مثال لا أتوقع أن يتكرر قبل عشرات السنين، ونحن كما قال نزار قباني:

“جلسنا في مقاهينا كبصاق المحارة، دبباً قطبية، صفحت أجسادها ضد الحرارة. ضباب لندن الكثيف حجب شمس الشرق، نصف قرن، وغادرنا، وسطع النور”.

فلماذا لا نرى بوضوح .. أو ننتظر يوماً يطلقون فيه على الشرق: دار المكفوفين؟

.

*إعلامي وكاتب – سوريا
.

-لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى