طعميني وبالبحر ارميني!! .. د. نهلة عيسى

طوفان من الأخبار عن قرب عودة بلادي إلى الحضن العربي, والتحليلات, والتكهنات حول متى, ومدى, وهل سيحدث حقاً ذلك!؟, على أشدها, والكلام يلاحق الكلام, بينما ابناء البلد يتابعون “عاصي الزند” على شاشات بتماهي منقطع النظير مع بطلهم المنشود, منشغلين عن القال والقيل الإخباري, باعتبار أنه كلام لا يطعم خبزاً, والخبز في بلادي بات بندول الساعة, يحدد الزمان, والمكان, والمشاعر, والعواطف, والاصطفافات, وخارج ميدانه لم يعد أحد يريد أن يسمع أحداً!؟.
ورغم أن هذا الحال لا يسر البال, لكنه الواقع الذي لم يعد ممكناً القفز فوقه, فالناس قد فقدت يقينها في كل الأشياء, كما يحدث في كل الحروب المزمنة, وأصبحت اللقمة هي الهدف, لأنها الستر من السؤال, وتقلصت كل الأحلام إلى حدود “طعميني وبالبحر ارميني”!, مما يجعل الواحد منا ينكر نفسه, ويسارع للبحث في مرآة الذات عمن كان, وإلى ماذا وصل؟
ومرآة ذاتي ذكرتني, كيف كنت أحلم بالتدفق كقطرة دم صغيرة داخل شرايين الوطن, لأستعيد ذاكرة الطيران والفرح والضحك من القلب, ولأصل إلى قلب الشام القديمة حيث تضيق الأزقة, فتتسع ضربات قلب البساطة والسكينة والبهجة العلنية العفوية, حيث رائحة البصل المقلي مهرجان ألوان, يعد بمائدة شهية, وبملاقاة السيدة المدللة العصية “السعادة”, بل حتى بملامستها, لمجرد أنك تشم!؟.
تذكرت, يوم هبطت من طائرة الغربة, وأحلامي وتصميمي على عيشها في يميني, كيف بدت لي أيدي الملوحين الفرحين بوصول أحبائهم, كأجنحة نورس, يحلق فوق البحر, ويهدي إلى ضفافه، ولكن ما كدت أغسل غبار الغربة الطويلة, وأفتح حقائب السفر, لأرتب أمتعة الغد حيث يجب أن تكون, اصطادت رصاصة قناص الحقيبة, ومسح السير على رؤوس الأصابع خوفاً من إزعاج بندقية إرهابي, كل حبر أحلامي, والتهمت القذائف والحواجز والمتاريس ونعوش الأحبة والأبناء, كل المفردات, وقماش صناعة الغد, ووجهاً كنت قد حددت تضاريسه بريشة فنان ملهم, لرجل كان يجب أن يكون حبيباً!؟.
تذكرت, كيف بعد سنين طويلة من قول كلمة “وداعاً” للوطن, بنبرة من يقول: “أحبك”, كيف رمتني منذ سنوات, غربة الجسد على عتبات التيه في الوطن, حيث كل الملامح لا أذكرها, وكل الوجوه غريبة, وصدر الوطن مفروش بالمسامير, وكل الأحبة يبتسمون في وجهي, وأنا أودعهم مقتولين, وكل سلامٍ أرد عليه, تلوح لي به أيادٍ مبتورة!؟.
تذكرت, كيف أنني خلال هذه السنوات, أتجول عارية من كل الأحلام, وأكتفي بالعيش على فوهة الأمل, بأن لا تحولني “بغتة” قذيفة أو رصاصة أو غضبُ قادرٍ فاجرٍ, إلى اسم مبني للمجهول, ولذلك الآن .. وحتى إشعار آخر, أكتفي بالهرولة ما بقي من “الوطن”, أحاول ترميم الصور, ولصق أقدام أحلامي المقطوعة, ورتق الوجوه والملامح والمشاعر والدموع, والتظاهر بالعيش فوق ضرس الموت, حيث الممكن والمتاح هو أسلوب عيش يشبه التحدي, إذ ماذا يمكن أن تفعل حين يكون جريحك .. وطن؟، وبماذا يمكن أن تستبدله, سوى بالحلم: أنه سيأتي يوماً ستشهد فيه ختام مواويل الصبر والحزن, حيث يمكن للمرء حينها, إعادة تركيب الوطن, كلمة على كلمة, وحجراً على حجر, وقلباً مع قلب, ويداً بيد, بدون توسط من يدٍ غريبة, وبدون أن تعمينا قرقعة البطون عن من العدو ومن الصديق!؟.
إقرأ أيضاً .. أن تكون أنا!؟ ..
إقرأ أيضاً .. باقون !؟ ..
*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب