رأي

باقون !؟ .. د. نهلة عيسى

يموت الكثير من السوريين على شاشات التلفاز كل يوم, كما يموت في كل مكان كثير من البشر, ولكن موتنا لا يشبه موتهم, فهل يستوي الذي يموت في غيلة الشيخوخة أو المرض أو ربما السأم كرهاً, مع من يموت طوعاً, وهو يواجه الحصار من الداخل والخارج, والتجويع, والتعطيش, وتدمير البيوت, وتجريف الأحلام والمشاعر!؟.

لا أظن أن موتنا يستوي بموتهم, رغم تشابه النتيجة, لأن الفرق كبير بين موت يطال جميع البشر, وموت قام بإعادة الاعتبار للموت, وحوله من فعل قدري, حتمي, نمطي, إلى حالة أشبه بالتحليق والتعالي فوق كل ما هو معتاد, ومدرك, ومفهوم, ومبرر, ليصبح فعل إرادة, وعبادة وتبتل, وفعل نبل, يخجل أمامه الموت ومن يموتون, لمجرد أن يومهم قد حان!.

موتنا (رغم بشاعته) قضية, لأنه هنا, حيث بيوتنا وقلوبنا وجروحنا وعدونا, وحيث نطالع بالتجربة والعيش, وليس بالسمع, كيف دخلنا قاموس أقل الأمكنة أمناً في العالم (بعد أن كنا أكثرها), للإقامة والعبور ناهيك عن الحب والزواج وتربية الأطفال, وإرسالهم إلى المدارس كل صباح بين وجع وآخر, وعدو مترصد يعادي حياتنا, وهو مدجج بالكراهية والسلاح من رأسه إلى أخمص قدميه.

موتنا موقف, لأننا بقينا ووطننا ينزف جرحاً تلو جرح, وجنوناً بعد آخر, وضحية بريئة بعد أخرى, بقينا رغم كل الرهانات التي ليست في صفنا, بقينا دون كلمات محشورة في رداء الرياء, لنلامس بحنان, الجدران التي نحبها, والزمان الذي مضى في الزمان, ولكنه لم يمض من القلب, والأصوات التي همست لنا يوماً, وروائح من رحلوا, ولكن كل الرشاوى التي قدمها العالم عجزت عن شراء ذاكرتنا لننساهم, إذ لا رشوة في الدنيا قادرة على أن تجلينا عما نحب.

موتنا قضية ردت للموت كرامته, لأننا بقينا وعرس الدم في أوجه, نجابه المخرز بالعين, ونرد الرصاص باللحم, ونرفع الأعلام فوق جثث الشهداء, فتبكي الأعلام, ويصير موتنا قضية, قضية نبيلة, لأننا بقينا بتاء التأنيث وجمع المذكر, نقطب بالدموع الجروح, ونكفكف بالتحدي الأسى, ونرد على الهاون بأرجيلة على الرصيف, ونفتح النوافذ والجحور والصدور, وحتى القبور لشمس يحجبها دخان الغدر, ويرسمها أطفالنا في أوراق امتحانهم, عندما يكون السؤال: ما معنى وطن؟.

موتنا يُخجل الموت, لأن المؤتمر تلو الآخر, والرصاص يلاحق الرصاص في أجسادنا, يعقد لتجرع دمائنا في جلسات ادعاء الخوف علينا, يعيدوننا قسراً للتجول داخل الجرح, وللخوض في دوائر أسئلة مراوغة, إجاباتها تبدو سهلة ولكن النجاح فيها عسير, والمشاعر أمامها مبهمة, تستنفر في داخلنا الشعور بالخطر والخوف والقهر, واليقين أن موتنا هو مجرد أحرف في لعبة المصالح السياسية المتقاطعة, لدول أدمنت تقاسم القوة والسلطة والمال والرفاهية فوق قبورنا!!.

دولٌ لا تحب الشعر, ولا تغريها الخطابة, ولا تجيد التلميح ولا تحبذه, وتكره الظلال المخاتلة, و تعشق المحسوس والملموس وتتقن صناعتهما بكل الأدوات, ولا يخجلها أن يكون الدمار واحداً من تلك الأدوات, ولا يقض مضجعها أن يدفع الثمن ملايين من البشر, وأن تتحول أوطانهم إلى مقابر, ما دام هدفها يتحقق, وما دامت هيبتها مصانة, وما دام الإخراج محكم!!.

موتنا قضية, قضية كبيرة, لأنه رغم كل ما كان وما سيكون, ستظل أوطاننا مثل الحياة التي نأتيها كرهاً ونغادرها كرهاً, ونتذمر منها, ولكننا نلعن كل من يقصر أعمارنا فيها, وندعو كل لحظة لنا ولكل الناس بطول العمر والبقاء, ما دام لنا وطن, وسيبقى لنا وطن, بل الأصح سيبقى لنا الوطن, لأننا لم نكن لغيره, والوجع عابر سبيل, مهما أقام, ونؤمن أننا على حق هنا وفي فلسطين, أليس من خلف الجبال العالية تشرق الشمس كل نهار؟.

 

إقرأ أيضاً .. الظلال !؟ ..

إقرأ أيضاً .. تجاوز الفصحى!؟ ..

 

*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أهم الأخبار ..
بعد 3 سنوات من اختطافه.. جائزة فولتير تذهب لكاتب عراقي موسكو: الرئيسان الروسي والصيني قررا تحديد الخطوط الاستراتيجية لتعزيز التعاون الجمهوري رون ديسانتيس يعلن ترشحه للرئاسة الأميركية للعام 2024 الأربعاء البيت الأبيض يستبعد اللجوء إلى الدستور لتجاوز أزمة سقف الدين قصف متفرق مع تراجع حدة المعارك في السودان بعد سريان الهدنة محكمة تونسية تسقط دعوى ضدّ طالبين انتقدا الشرطة في أغنية ساخرة موسكو تعترض طائرتين حربيتين أميركيتين فوق البلطيق قرار فرنسي مطلع تموز بشأن قانونية حجز أملاك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بطولة إسبانيا.. ريال سوسييداد يقترب من العودة إلى دوري الأبطال بعد 10 سنوات نحو مئة نائب أوروبي ومشرع أميركي يدعون لسحب تعيين رئيس كوب28 بولندا تشرع في تدريب الطيارين الأوكرانيين على مقاتلات إف-16 ألمانيا تصدر مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الانتخابات الرئاسية التركية.. سنان أوغان يعلن تأييد أردوغان في الدورة الثانية أوكرانيا: زيلينسكي يؤكد خسارة باخموت ويقول "لم يتبق شيء" الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن من اليابان عن حزمة أسلحة أميركية جديدة وذخائر إلى كييف طرفا الصراع في السودان يتفقان على هدنة لأسبوع قابلة للتمديد قائد فاغنر يعلن السيطرة على باخموت وأوكرانيا تؤكد استمرار المعارك اختتام أعمال القمة العربية باعتماد بيان جدة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الجامعة العربية لتمارس دورها التاريخي في مختلف القضايا العربية رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي معتبرين ذلك خطوة هامة نحو تعزيز التعاون العربي المشترك، ونثمن الجهود العربية التي بذلت بهذا الخصوص الرئيس الأسد: أشكر خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على الدور الكبير الذي قامت به السعودية وجهودها المكثفة التي بذلتها لتعزيز المصالحة في منطقتنا ولنجاح هذه القمة الرئيس الأسد: أتوجه بالشكر العميق لرؤساء الوفود الذين رحبوا بوجودنا في القمة وعودة سورية إلى الجامعة العربية الرئيس الأسد: العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم، لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربياً ضد الشعب الفلسطيني المقاوم ولا تنتهي عند الخطر العثماني ولا تنفصل عن تحدي التنمية كأولوية قصوى لمجتمعاتنا النامية، هنا يأتي دور الجامعة العربية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها شرط تطوير منظومة عملها الرئيس الأسد: علينا أن نبحث عن العناوين الكبرى التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا كي لا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب الرئيس الأسد: من أين يبدأ المرء حديثه والأخطار لم تعد محدقة بل محققة، يبدأ من الأمل الدافع للإنجاز والعمل السيد الرئيس بشار الأسد يلقي كلمة سورية في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة الرئيس سعيد: نحمد الله على عودة الجمهورية العربية السورية إلى جامعة الدول العربية بعد أن تم إحباط المؤامرات التي تهدف إلى تقسيمها وتفتيتها الرئيس التونسي قيس سعيد: أشقاؤنا في فلسطين يقدمون كل يوم جحافل الشهداء والجرحى للتحرر من نير الاحتلال الصهيوني البغيض، فضلاً عن آلاف اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون في المخيمات، وآن للإنسانية جمعاء أن تضع حداً لهذه المظلمة الرئيس الغزواني: أشيد بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي آملاً لها أن تستعيد دورها المحوري والتاريخي في تعزيز العمل العربي المشترك، كما أرحب بأخي صاحب الفخامة الرئيس بشار الأسد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني: ما يشهده العالم من أزمات ومتغيرات يؤكد الحاجة الماسة إلى رص الصفوف وتجاوز الخلافات وتقوية العمل العربي المشترك