رأي

ذهنية أوروبا تستعمر واقعيتَها .. طارق عجيب

لا يمكن اعتبار ما تمر به أوروبا تخبطاً أو مكابرةً أو ضبابيةً في الرؤية، فالأزمات المنخرطة بها بكثير من الأشكال، والتهديدات الجدِّية التي تُحيق بها، والاستحقاقات المصيرية التي تنتظرها، لا يمكن أن تسمح بذلك .

بإطلالة طبيعية على التاريخ القديم والمتوسط والحديث، يمكننا بكل وضوح أن نستعرض التاريخ الاستعماري العريق والمستمر للغرب الأوروبي في البداية ثم للغرب بمفهومه الأوسع بعد انضمام الولايات المتحدة الأميركية إلى نادي الدول الاستعمارية.

فمنذ القدم ومع أول استعمار في التاريخ وحتى يومنا هذا، لم يتوقف الأوربيون عن التعامل وفق ذهنية المُستعمِر في أوروبا، وتجهيز وتسيير الجيوش والجحافل لاستعمار أراضي الآخرين لتحقيق أطماعهم بالثروات والهيمنة، مع تغييراتٍ تطرأ على قائمة الدول المستعمِرة مع اختلاف الأزمنة والمراحل التاريخية، ومن الواضح أن بريطانيا وفرنسا صمدتا في هذا القائمة واحتلتا المراتب المتقدمة من حيث مساحة وعدد الأراضي والدول التي هيمنتا عليها بالشكلين القديم والجديد للاستعمار، لكن بقيت القائمة تعج بالأسماء حتى منتصف القرن الماضي.

إقرأ أيضاً .. قرابين النظام العالمي الجديد بين الشرق والغرب

ولم تتخلَّ أوروبا عن ذهنية الاستعمار المتجذرة في عقيدتها رغم كل ما مرت به من أحداثٍ عاصفة ومخاض عسير في القرون الوسطى، ورغم أن ذلك أنتج أنظمةً اجتماعية ومنظومات سياسية تمكنت من النهوض بشعوبها ودولها والانتقال بها لتكون دولاً ومجتمعات بمعايير إنسانية ودستورية وقانونية وقِـيـمـية عالية، ثم رسمت أوروبا بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية صورة جميلة لمنظوماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتمكنت بدهاء وحرفية عالية من الانتقال من الاحتلالات العسكرية المباشرة إلى احتلالات غير عسكرية لكن أكثر سلطة وسطوة على كثير من الدول التي غادرتها، ورفعت مجموعة من الشعارات والمصطلحات والقيم الخاصة بها وجعلتها عناوين عريضة وحوامل لسياساتها الداخلية والخارجية، وبالتوازي مع ذلك استخدمتها كاسلحة مسلطة على رقاب من تعاديه أو تستهدفه.

الحرية، العدالة، المساواة ، الديمقراطية ، حقوق الإنسان والحيوان، حرية الرأي والتعبير، قبول الاختلاف والرأي الأخر، الواقعية بمختلف مجالاتها، البراغماتية، الأخوة، التشاركية، الاستقلالية، سيادة القانون، الأمن القومي، فرض القانون الدولي، واجب أوروبا الإخلاقي والإنساني، حق المواطن على الدولة وواجبه تجاهها، وغير ذلك من معايير أوروبية.

وفي كل الأزمات التي انفجرت بعد الحرب العالمية الثانية، على اختلاف دوافعها وتداعياتها ونتائجها، نجحت أوروبا في التعامل معها والخروج منها بما يرضيها ولو بالحدود الدنيا، مع الحفاظ على صورتها التي تريد أن يراها العالم الأخر، دون أن يضطر هذا العالم للخوض في كيفية تعامل أوروبا مع هذه الازمات وكيف خرجت منها وماذا حققت، وكانت حريصة في نشر ما تريده هي من إجابات عن الأسئلة السابقة باستخدام بعض المصطلحات والشعارات السابقة التي ذكرناها والتي تخدم سياساتها في هذه الأزمة أو تلك.

البراغماتية والواقعية السياسية، من أكثر المصطلحات التي استخدمت من قبل المنظومات السياسية الحاكمة في أوروبا لتبرير الاختلافات أو التناقضات أو التغييرات الحادة في سياساتها تجاه قضيةٍ ما، ولحرف النظر عن حقيقة أن المصالح الأوروبية البحت في كل أزمة والمكاسب الناتجة عن الدور الأوروبي فيها هي في الحقيقة الدافع الرئيس في تغيير هذه السياسات، بل في جوهرها أحياناً، كذلك تستثمرها حين تريد الضغط أو خلق ضغط شعبي على أطراف يستهدفها الأوروبي ويطالبها بأن تتعامل بواقعية مجردة تخدم مصالح آنية أو جزئية لأبناء الأزمة الحقيقيين دون الأخذ بعين الاعتبار مبادئ أو ثوابت او حقوق لا يجب التفريط بها أو التخلي عنها لأن نتائجها ستكون كارثية عليهم أو تهدد وجودهم أو كيانهم، لكنها في النهاية تصب في مصلحة ” الغرب والأوروبي”.

أما في الأزمة الأوكرانية الأخيرة التي يرزح تحتها العالم بأسره اليوم ، فقد أكدت المنظومة السياسية الأوروبية أنها لم تتخلص أو لم تقبل (أو لا تريد) أن تتخلى عن ذهنياتها العتيقة وقناعاتها الراسخة التي تعتمد على فكرة “السيد الأوروبي” المهيمن على باقي شعوب ودول الأرض، مستندةً إلى إرث استعماري عريق حقق لها نسبة عالية من غاياتها وأطماعها، وبدا ذلك جلياً حين أصر الأوروبي بشكل أثار الدهشة على اتباع ذهنية أوروبا واختيار سياسة المواجهة المباشرة والتصعيد في وجه روسيا، التصعيد الذي قد يأخذ كل الاشكال حتى العسكري والنووي منها، دون التفكير بشكل حقيقي وجدي في إيجاد مخارج أخرى للأزمة التي يتعرض لها، ولم يُطرح شعار الواقعية السياسية أو الاقتصادية أو البراغماتية التي تخدم الوصول إلى مخارج غير عسكرية للأزمة، وتحقق مصالح الأطراف جميعها وتفضل الحلول السلمية وإن لم تكن تحقق كامل غايات أوروبا التي تُرضي ذهنيتها الاستعمارية.

يذهب كثيرون خلف وجهة النظر التي تقول إن الأوروبي يتبع الأميركي بشكل أعمى ومطلق، أو هو عاجز عن مخالفته لأسباب كثيرة، لذلك لم يُلقِ الأوروبي بالاً لحجم وكارثية الأضرار التي ستلحق بشعوبه ومؤسساته واقتصاده، ولم يتوانَ عن تقديم اقصى إمكانيات الدعم لأوكرانيا وصل حد الدعم العسكري على الأرض كما قال الروسي في آخر تصريحاته واعتبر أن الأوروبي بذلك قد تجاوز الخطوط الحمر، وهذه وجهة نظر محقة إلى درجةٍ ما.

إقرأ أيضاً .. “الحاوي” أردوغان

وجهات النظر الأخرى التي تبحث عن مبررات وأسباب تشدد المواقف الأوروبية واختيارها التصعيد والهروب إلى الأمام دائماً، أن الأوروبي لا يُـقـدِّر خطورة اتِّباعه هذه السياسات، ويراهن على أن حُزَمَ العقوبات المتتالية وغير المسبوقة والضغط بكل السبل السياسية والاقتصادية والإعلامية والدبلوماسية وبشكلٍ قاسٍ وصارمٍ جداً للتضييق على روسيا والروس، والدعم غير المسبوق أيضاً بكل الاشكال حتى العسكري منها لأوكرانيا، لابد أن يفرض على روسيا أن تغير من سياساتها وتخضع “للسيد الغربي-الأوروبي”.

ومع اختلاف وجهات النظر حول السياسات الأوروبية، يجب أن لا نهمل ما يمكن أن نعتبره “عقيدة” أوروبية تتمثل بأن ذهنية أوروبا الاستعمارية هي في بنية عقل المنظومة السياسية الأوروبية، وأن ذلك يُسهم بشكل كبير في فهم وتفسير هذا التعنت والتشدد والإصرار الأوروبي على فرض رؤيته لإنهاء الأزمة وفق هذه الذهنية التي تحقق له غاياته ومصالحه، وتكرس فكرة “السيد الأوروبي” بكل ما يحمله هذا المصطلح من معانٍ ما يزال الأوروبي ذاته يدعي أنه يناهضها ويرفع في وجهها شعاراته (أسلحته) التي ذكرناها سابقاً.

 

*رئيس تحرير موقع midline-news

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى