حوار الطرشان!؟ .. د. نهلة عيسى

أنا, وبصدق شديد, ورغم أن الفقر لم يعد يدق علينا الباب, بل كسر علينا الباب, وتربع في عقر بيوتنا, لست متفائلة, ولست متشائمة, ولا غاضبة, ولا راضية, أنا خارج الحالتين, لأن كليهما عبث, وكليهما تضييع لجهد ووقت ومشاعر يجب أن توظف في التفكير كيف يمكن أن نخرج مما نحن فيه, أو على الأقل تلطيف ما نحن فيه: ما هي الحلول, التشريعات, السبل, الوسائل, الأدوات, ومن الرجال والنساء الذين يجب أن يستعان بهم, القادرين على التفكير, والتدبير, والتفسير, ووضع الأمور في سياقاتها الصحيحة, في ظل عجز وتيبس لا خلاف حولهما في جميع المفاصل الحكومية؟.
ولأجل ذلك, وبعيداً عن العواطف المتقدة, وبعقل “رغم الوجع” ما زال بارداً, أوالي الاستماع والقراءة, وتتبع الباحثين, والخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين والإعلاميين المهمومين حتى ثمالة الثمالة بما يحاك للوطن, وما يجري له وفيه, وبتوابع ذلك الزلزالية على مقدراته وحياة ومعيشة مواطنيه, للإجابة على سؤال مباشر وصريح: ما هي المراسيم والقوانين, والوسائل والسبل, والأدوات اللازمة لإيجاد حلول عملية وسريعة, سواء على المستوى النقدي, أو المالي, أو الاقتصادي الكلي للأوضاع المعيشية المتفاقمة, دون الحاجة للاستعانة بحليف أو صديق أو رجال أعمال!! خاصة وأن معظم اصدقائنا وضعهم مزرياً أكثر من وضعنا, ورأس مالنا ريعي وجبان, ومغموس من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه بالعمولات والفساد؟.
واكتشفت, وتعلمت أنا الأمية في المال والادخار, والسندات والخزينة, أن لدينا نوابغ بالمعنى الحرفي للكلمة في الاقتصاد, نوابغ تلتقط اللحظة الراهنة وتعيها, وتعي كيفية التعامل معها بالأدوات المتاحة, دون انتظار “خط الحجاز”, أو قطار جنيف, أو أن تذوب ثلوج سوتشي (في عالم الصقيع يغلف ضميره), أو أن يثوب الغرب إلى رشده, أو أن تنتصر روسيا, أو أن يهدي الله “سر” أردوغان!!
وأن يكون لدينا نوابغ, هذا ليس عجيباً, بل طبيعي وعادي, فسورية وَلادةَ, والحلول التلطيفية للواقع الصعب, كمقدمة للجذري الواجب بعد حين, ليست فقط ممكنة, بل سهلة ويسيرة وبسيطة, وستنعكس بسرعة ايجاباً على وضعنا الراهن, فيما لو اتخذ القرار بها وطبقت, ولا تحتاج سوى لرغبة وإرادة وقرار, ورقابة صارمة تحمي الإرادة والقرار!؟.
اكتشفت, وأنا الخبيرة الملسوعة الملتاعة من الاجتماعات وما يجري في الاجتماعات, أن الاجتماعات الولود المصرة على أننا بخير!! واللجان المتفرعة إلى لجان, داؤنا الوطني المزمن, يهدران الكثير ليس فقط من وقت الوطن القليل, بل أيضاً الكثير من المقترحات الجديرة بأن تتحول إلى حلول تصب في مصلحة حياة جميع الناس وليس بعض الناس, وأنهما (أي الاجتماعات واللجان) وسيلة مقننة للهروب من تحمل المسؤولية واتخاذ القرار, في وقت نحن أحوج ما نكون فيه للجرأة الفاهمة “النظيفة” في اتخاذ القرار!؟.
وتذكرت, كم أهدرت أنا من وقتي على اجتماعات, دعيت إليها بزعم الاستشارة والاستنارة, وقضيت في كل منها ساعات استمع لسجل بطولات “مزعوم” لرئيس الاجتماع, ولخطط عقيمة, الهدف منها ليس ايجاد حلول, بل التشدق أنهم في طور ايجاد الحلول, وكأن الوصول إلى حل, يخيف الجالسين على المقاعد المزمنة, لئلا يستبدلون, فيكون البديل عن الحل, ادعاء البحث عن حل يطيل أمد الجلوس, ويجعل المدعو منا لاجتماع يخرج هاجساً في العلن والسر: إن كنتم حقاً عباقرة, أبطال, وجبابرة, فلماذا نهزم في عيشنا!؟.
تذكرت الكثير مما جرى في سنوات الحرب والحصار والفساد المزمن, وكيف قضى ويقضي الشرفاء منا, القابضين على جمر الوطنية والقانون والحفاظ على الدولة, ومستقبل السوريين, وقتهم في الدفاع عن الذات, عبر اشغالهم في الرد على الشكايات الرخيصة وأحياناً مدفوعة الأجر من هذا وذاك لمنع سماع صوتهم في الوطني والشأن العام, ولدفعهم للدخول في طوابير “المدعين” أننا بخير!! ثم عدت لمتابعة كلام من يفهمون, الذي يمدني بشعور كبير من الأمان, بأنه لا خوف على الوطن, ففيه ملايين العقول المبدعة, الخوف فقط أن لا تُسمع وأن لا تُرى, ولذلك يجب أن نرفع الصوت جميعاً, لتردد صداه المكيفات في الغرف المغلقة: الحلول ممكنة, فقط ارفعوا عن آذانكم كاتم الصوت, وكفوا عن حوارات الطرشان.
إقرأ أيضاً .. شقق مفروشة !؟ ..
إقرأ أيضاً .. تهوية إحباطاتنا!؟ ..
*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب