جسر الودّ الوحيد .. غسان أديب المعلم

لم تكن السياسة يوماً خارجة عن مألوف اللعب على الحبال لتحقيق المصالح الفرديّة أو الجماعيّة المُجتمعيّة في أغلب الأحيان، وتمّ وضع هذا النوع من اللعب ضمن تصنيف “البراغماتيّة”، على الرغم من حداثة هذا المذهب الذي يعود تأسيسه المدرسيّ النظريّ إلى أواخر القرن التاسع عشر، والذي رسم خطوطه العريضة الأمريكي “ساندرس بيرز” واختصرها عند النتائج كجدوى لأي فكرة أو مشروع، أي مايُعرف ويتناسب مع مبدأ الغاية تبرّر الوسيلة..
وفي ضوء ماشهده العالم إثر هذه النظريّة، فالجميع على علمٍ بأنّ الصانع الأمريكيّ هو اللاعب المُتقن الأوّل لهذا المذهب، وفق ما مارسته السياسة الأمريكيّة عبر تاريخها الحديث من آليات صُنّفت بخلوّها من الأخلاق لكنها تنضوي تحت سقف القوانين المرعيّة بحسب وجهة نظرها، وكان قانون الفصل السابع أهم أدواتها “البلطجيّة” في فرض سيطرتها على الدول وسلب ونهب الخيرات واستعباد الشعوب، وعلى الرغم من مُعارضة الكثير من الزعامات الأوروبيّة وكذلك المعاهد والهيئات لهذا المذهب الأمريكيّ المُعلّب الذي يحمل نزعة إقصاء الأخلاق عن السياسة، إلّا أن قوّة “الأزعر الأمريكيّ” لم يستطع أحدٌ ما الوقوف حيال ذلك الأمر، ولطالما انضوت الدول الأوروبيّة وانكفأت مع غيرها تحت جناح الغطرسة الأمريكيّة..
إقرأ أيضاً .. هذا العالم يحتاج لمجنونٍ واحد ..
وعلى الطرف المشرقيّ المواجه، لطالما كانت هذه الكلمة، “البراغماتيّة”، مُصنّفة بارتباطها الغربيّ، ومُحاطة بالريبة والتوجّس لأن كلّ ما يأتي من وراء المُحيط يدعو للحذر، وتمّ ربطها جهلاً بتعاريف خاطئة بالعموم، فالبراغماتيّة لا علاقة لها بالليبراليّة أو الشيوعيّة أو الكوسموبولتيّة أو الإباحيّة وغيرها من التعاريف والمصطلحات، وكان بالإمكان الاستفادة منها على نحو يربطها بالأخلاق، فلا شيء ثابت بالمُطلق..
وفي هذه الأيام التي تُشبه السيرك بما يشهده من لعب البهلوان على الحبال وكأنّه طوق نجاةٍ بمغامرةٍ مجنونة تحفّها المخاطر تفادياً للوقوع، الأمر ذاته عند أهل الساسة ولو أنّ بعض المغامرات تهدف لإبكاء الشعوب دون إسعادها، ولا أحد يستطيع الجزم أو النفي بأن هناك من يدير السيرك العالميّ عبر هذه الأدوات..
فالبراغماتيّة فرضت ذاتها في كثيرٍ من مواقف اليوم، فالدول الخليجيّة على سبيل المثال لا الحصر عارضت فكرة زيادة الإنتاج النفطيّ ولم تتماشَ مع المطلب الأمريكيّ بهذا الخصوص، على الرغم من أنّ الكثيرين يعدّون هذا الأمر لا يعدو أكثر من مسرحيّة أو مشهد مُضحك ضمن هذا السيرك، وفي جانبٍ آخر، تمّ الاتفاق الروسيّ مع تركيا لجعلها أيقونة تجميع وتوزيع الغاز العالميّ الجديد، على الرغم من كون تركيا دولة مهمّة وأساسيّة في حلف شمال الأطلسي، بل إن المُشاهد لهذا السيرك والمتتبّع للتفاصيل، يعلم بحجم الأذى التركي لروسيا وخصوصاً في حربها مع أوكرانيا عبر حرب المُسيّرات، ولا ينسى بالطبع “خرمشات” الأتراك مع الروس في الملفّ السوريّ المُعقّد حتّى اللحظة، ولا يُمكن للمُشاهد إلّا الإشادة فعلاً بأبرع الراقصين على الحبال في هذا المشرق حتى و لو كان على عداوة معه ويحمل في داخله الكره لسياسات تركيا التي برعت برسم المسار الأوّلي “صفر مشاكل” لتكون النتيجة بأنها متحكّمة بعديد الملفّات في العالم!.
وبما أنّ الغاز أصبح محور الهمّ والاهتمام في العالم، فقد لعب صانع البراغماتيّة الحديثة دور الوسيط والحكم العادل بين لبنان الرسميّ والكيان الصهيونيّ في قضيّة حقول الغاز المتوسطيّة المسمّاة بحقول “قانا-كاريش”، فهل كان أشدّ الحالمين يتوقّع هذا السيناريو أو المسرحيّة الهزليّة بأن تلعب أمريكا دور الحكم، وبين من؟ بين لبنان والكيان!!..
إقرأ أيضاً .. الهروب إلى الأمام ..
وبعيداً عمّا أسفر عنه الإتفاق من نتائج، سواء لمصلحة لبنان أكثر أم الكيان، لكنّ البراغماتيّة انتصرت في جانبٍ مهمّ عبر نقطةٍ فاصلة تُسمّى “الترسيم”، لأن هذه النقطة بالذات كانت تُعدّ من الكبائر البعيدة عن الأخلاق، لكنها مضت في حال سبيلها كمشهدٍ إضافيّ في محفل السيرك الذي ما زلنا فيه في موقف لا نُحسد عليه!.
فسوريا أيضاً لديها من الثروات ماهو أكبر بكثير، ومنها ما هو تحت سيطرة الاحتلالات المختلفة التي تنهبه وتسلبه على مدار الساعة بينما نكتفي بتعداد الصهاريج والشاحنات التي تحمل الشحنات المسروقة، ومنها ما هو في حوزة الدولة بنوعيه، الثروة الآنيّة المُنتجة، والثروة التي تنتظر الاستثمار والنتائج.
أمّا الحبال، فلم يعد من حبلٍ واحد نستطيع اللعب عليه بمنظور السُلطات ولو ببراغماتيّة سوى “حبل الانتظار” المفروض والمرتبط بنتائج الحرب الروسيّة الأوكرانيّة التي رسموا نهايتها منذ اليوم الأول بانتصار روسيا كأمر حتميّ، وعلى ضوء ذلك سنشهد خسارة المعسكر الغربي وضعفه وحتى إزالته، ومن ثمّ نحصد النتائج.
وفي حقيقة الأمر، أن الزمن والانتظار ليس في مصلحة أحد دون القيام بالأفعال، فالدولة تعتمد في سياستها الاقتصاديّة على خطوط الائتمان “الروسيّة – الإيرانيّة”، وكلا البلدين غارقان في حربٍ أو مستنقع، وبالتأكيد لن تكون خطوط الدعم لسوريا من الأولويّات، وعليه، ومن الأجدى والأنجع أن لا يكون حبل الانتظار هو حبل النجاة، بل إنّ هناك ما هو أقوى وأشدّ من الحبل المُفترض، ولا يمكن تصنيفه ضمن “البراغماتيّة الأمريكيّة” بل هو أساس وقوّة أيّ دولة في أي موقفٍ كان، فما أشدّ الحاجة لبناء دعائم “جسر” بين السلطات والشعب، لأنّنا وعلى أرض الواقع نقع في “فجوة الاستقرار” حيث لا ثقة بين الشعب والسلطات ضمن ما يعيشه الشعب من حياةٍ لا حياة فيها.
إقرأ أيضاً .. جواسيس البيرويسترويكا ..
ومن الممكن أن يكون هذا الجسر المُمكّن الأول للقدرة على اللعب مجدّداً بأدوار البطولة الفعليّة المُرتبطة بالمبادئ والأخلاق، وليس الاكتفاء بمنظر المتفرّج أو اللاعب الآيل للسقوط في انتظاره.
فالبراغماتيّة، ليست نظريّة ثابتة، وبالإمكان خلق أسس جديدة في معرضها، وأن تكون براغماتيّاً وصاحب مبدأ أخلاقيّ في الوقت نفسه، فالثروات لم ولن تُستعاد أو تُستثمر إلّا في كنف دولة قويّة بشعبها ومواطنتها وقانونها وقرارها الذي سيؤسس لمقاومةٍ حقيقيّة تستعيد حدودها ولا تقبل “الترسيم” المفروض في هذا السيرك العالميّ.
فهل يضع أصحاب القرار اللبنة الأولى لهذا الجسر؟، أمّ أنّ حليمة ستبقى على عادتها القديمة؟.
يقول ابراهام لينكولن: إنّ الدجاجة هي أذكى الحيوانات، فهي تصيح بعد أن تضع البيضة.
ترديد الشعارات والصياح دونما عمل، سيودي بنا إلى التهلكة، فهل نعتبر ونحيا؟.
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب