رأي

الهروب إلى الأمام .. غسان أديب المعلم ..

 

وللمرّة الثانيّة، يعود الحديث عن إمكانيّة حدوث الحرب العالميّة الثالثة وتوسيع رقعة المعركة مع استخدام السلاح النووّي، ولو بشكلٍ جزئي للواجهة الدوليّة بالعموم، وخصوصاً أنّ التلميح والتهديد والوعيد كان عبر تصاريح رسميّة متبادلة بين أطراف الصراع والشركاء والداعمين الذين يخوضون الحرب الروسيّة الأوكرانيّة والمتورطين في أتونها، وعلى رأسهم الرئيس الروسيّ في أثناء خطابه الأخير، وما نتج عنه من ردّات فعلٍ في الطرف المقابل، الذي يعرف ويدرك هذا الأمر قبل حدوثه، فكواليس حرب النجوم بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا باتت معروفة للجميع، وكذلك تطوّر الترسانة وزيادة عددها أو فعاليّتها وفقاً لمعاهدات ستارت بين أمريكا، والوريث الشرعيّ الأكبر للسوفييت، روسيا..

ومع ذلك، فالتقدّم الأخير للأوكران، أو قلب الطاولة ولو بشكلٍ جزئي، ماكان ليحدث لولا الدعم وجسر المساعدات الأمريكيّة لأوكرانيّا، وبالتأكيد بعد دراسة مفصّلة وعميقة لشخصيّة الحاكم بوتين، والأوضاع السياسيّة وطريقة إدارة روسيا لهذا الشأن، وأنّ جرحاً كبيراً بات ينزف اسمه “كبرياء روسيا”!

فقبل الانقلاب في ميزان أمتار الجغرافيا والعدّة والعديد وسير المعارك، كانت المدّة التي تجاوزت الستّة شهور كافية لإعلان حالة من التململ والغضب وحتى انعدام الثقة بعد هول الصدمة إثر افتتاحيّة المعارك، فالميديا الروسيّة وكذلك الأمر البروباغندا الأمريكيّة المتماهيّة، أظهرت الأمر وكأنه رحلة سياحيّة لبعض القطع العسكريّة الروسيّة التي ستنهي مهامها خلال أيام، وبُعيد الاجتياح وكردٍّ على تكاتف أمريكا مع الأوربيّين لنجدة الأوكران، أعلنت روسيا وللمرّة الأولى عن جاهزيّة السلاح النووي لو اضّطر الأمر، في خطوة استباقيّة لبثّ الذعر في قلوب دول الناتو!

لكنّ النتيجة غير النهائيّة -والتي أشرنا لها بعد مرور أربعين يوماً من بداية الحرب- أنّ الحرب أخذت طابع الكلاسيك، وأنّ الأمر بات محرجاً للروس عند وضع جيش البلاد الأضخم عدّة وعديداً بعد أمريكا في مواجهة بلدٍ لا يملك سوى فتات الورثة العسكريّة للسوفييت والتي تعلمها روسيا جيّداً..

وبالانتقال إلى الجانب الآخر من الحرب، وهو عامل العقوبات التي فاقت قراراتها الألف، و التي وصل الأمر بها لمنع كتب بعض الأدباء الروس، في حين كانت روسيا تقابل العقوبات بالتهديد أوّلاً عبر قطع خطوط الغاز، ومن ثمّ خفضّت التوريدات بالفعل، وذهبت إلى الشرق للبحث عن أسواق جديدة، وبالتالي تكوين حلفاء جدد، وتشكيل قوّة مضادة، معتمدةً على المثل الصيني الشهير “عدو العدو صديق”.

لكنّ أصحاب هذا المثل وبرغم العداء مع أمريكا، وخصوصاً بعد زيارة نانسي بيلوتشي لتايوان، تعاملوا ببراغماتيّة تحاول التوفيق في العلاقة والاستفادة من الطرفين، وخصوصاً أنّ مايجمعها مع أمريكا اقتصاديّاً أكبر بكثير من اتفاقيّاتها مع روسيا، والأمر نفسه ينطبق على موقف الهند، أمّا الشريك الاقتصاديّ الإيرانيّ فهو غارقٌ في ملفّه النوويّ مع الخارج، وغارقٌ بالداخل إثر وفاة الفتاة الإيرانيّة في غرف التحقيقات، وخروج المظاهرات في أكثر من مكان، أمّا السياسة التركيّة، فلا يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها وخصوصاً أنها من دول الناتو، ولعبت مسيّراتها “البيرقدار” دوراً بارزاً في مجريات الحرب، ورجحان كفّة الميزان الأوكرانيّة ولو ببعض القليل.

كلّ هذه الأحداث مجتمعةً، دفعت الرئيس الروسيّ لإعلان التعبئة الجزئيّة، مع قوانين صارمة لمن يتخلّف عن الالتحاق بشعب التجنيد، وعقوباتٍ لمن يتقاعس أو يفرّ في أثناء سير المعارك، وصولاً لإعطاء الجنسيّة الروسيّة لمن يحارب مع الجيش الروسيّ لمدّة عام، إلى نهاية المطاف بأنّ السلاح النوويّ جاهز للاستخدام في أي لحظة!

فهل خسرت روسيا الحرب فعلاً أم أنها بوادر الخسارة؟

على المستوى العسكريّ، هي خسارة قياساً لجغرافيا سير المعارك، وقياساً لحجم واسم الجيش الروسيّ

والذي أعلن عن تغيير بعض القادة رفيعيّ المستوى بعد الخطاب الأخير، وبالموازاة أيضاً تحدّث الشريك الفعلّي في الحرب “قاديروف” عن جملة أخطاء عسكريّة جسيمة في هذا النحو، لكن الحرب لم تنته بعد،

وعلى المستوى الاقتصادي، فالتململ بدا واضحاً في الداخل الروسيّ الذي شعر فعليّاً بجرح الكبرياء، وأنّ خوفاً من المستقبل يعشعش في النفوس، فشعلات الغاز تحترق دونما فائدة، وناقلات النفط الروسيّة تبحث عن زبون، بل وصل الأمر إلى أن السماد الروسيّ متاح لكلّ الدول الفقيرة بهذا العالم بالمجّان!

وكلّ هذه الأمور فعلاً مقياس للخسارة المبدئيّة، أو لنقل أولى الجولات لو اعتبرنا مدّة كلّ جولة ستّة أشهر قياساً لمتوسّط زمن الحروب وخصوصاً العالميّة منها كخمس سنوات.

فهل يكون المخطّط لهذه الحرب هو تفكيك روسيا أسوةً بتفكيك الأسرة الأكبر الاتحاد السوفيّاتي سابقاً؟

أم أن المخطّط فعلاً هو الذهاب لحربٍ عالميّة ثالثة مع استخدام الأسلحة النوويّة الذكيّة المحدودة، وتوسيع رقعة الحرب لتكون النتيجة انهيار روسيا وأوروبا بالكامل، والرابح الأكبر حينها وبكافّة الاحتمالات أمريكا؟

ومن أكثر من “شخصيّة” بوتين للوصول لأهداف كلا المخطّطين، فواهمٌ من يظنّ بأنّ أمريكا لم تدرس وتتعمّق بهذه الشخصيّة التي ولّت نفسها حاكماً أبديّاً على شعب روسيا، وواهمٌ من يظنّ بأنها لم تدرس معنى الكبرياء عند هذه الشعوب وتاريخها، وبالتأكيد فإنّ هذه الشخصيّة البوتينيّة هي الأقدر على الهروب للأمام في حال الخسارة ولو بجولة!

فهل ستشهد عملية الهروب للأمام حرباً عالميّة لا تبقِ ولا تذر على العالم بأسره وليس على مستوى الرقعة الأوربيّة؟

أم أنّ المخطط الفعليّ وقياس ردّات فعل الحاكم الأبديّ ستكون بداية النهاية لمكوّنٍ تاريخيّ اسمه روسيا؟

وبالنهاية، وتأكيداً على ماسبق، فليس التوجّه نحو الاصطفاف أو الانحياز ضد روسيا، أو الانسياق في ترويج الخسارة، فالواقع يتحدّث ونتائج الجولة ظاهرة، والمثل الصيني المعتمد واضح وجليّ بأنّ “عدوّ العدوّ صديق”، ولا مكان لمهادنة الأمريكان وهم يسرقون ثرواتنا ويحتلّون أراضينا

لكن الفكرة حول ماهيّة الحرب والتخطيط، وأنّ أكثر من ألف وثمانمائة مركز أبحاثٍ استراتيجيّ حول مركز القرار الأمريكيّ يمدّه بالدراسات المفصّلة، وعلى الطرف النقيض ما يُعادل نصف هذا الرقم عند الجانب الروسيّ..

لكن الأهم، أين مراكز الأبحاث في أوطاننا ونحن في خضمّ حربنا المُستعرة، وأين الاستفادة؟

هل قرأنا فعلاً أن الحرب أكبر منّا بكثير، وأنّ القلم ضرورة للداخل أكثر بعد كلّ وصفٍ واستعراضٍ للأحداث، وهل ثمّة من يذكر نتائج الاحتمالات بفوز روسيا أو خسارتها، وهل من يتحدث عن الاستعدادات لكلّ الاحتمالات؟

والنقطة الأخيرة، هل ثمّة من يكتب عن جرح الكبرياء السوريّ الذي درسه الأعداء، ونسته أو تناسته مواقع القرار؟

الكبرياء الذي يدفع السوريّ للمغامرة والمقامرة و مصادقة الموت لأجل فرصة حياة.

 

*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أهم الأخبار ..
بعد 3 سنوات من اختطافه.. جائزة فولتير تذهب لكاتب عراقي موسكو: الرئيسان الروسي والصيني قررا تحديد الخطوط الاستراتيجية لتعزيز التعاون الجمهوري رون ديسانتيس يعلن ترشحه للرئاسة الأميركية للعام 2024 الأربعاء البيت الأبيض يستبعد اللجوء إلى الدستور لتجاوز أزمة سقف الدين قصف متفرق مع تراجع حدة المعارك في السودان بعد سريان الهدنة محكمة تونسية تسقط دعوى ضدّ طالبين انتقدا الشرطة في أغنية ساخرة موسكو تعترض طائرتين حربيتين أميركيتين فوق البلطيق قرار فرنسي مطلع تموز بشأن قانونية حجز أملاك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بطولة إسبانيا.. ريال سوسييداد يقترب من العودة إلى دوري الأبطال بعد 10 سنوات نحو مئة نائب أوروبي ومشرع أميركي يدعون لسحب تعيين رئيس كوب28 بولندا تشرع في تدريب الطيارين الأوكرانيين على مقاتلات إف-16 ألمانيا تصدر مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الانتخابات الرئاسية التركية.. سنان أوغان يعلن تأييد أردوغان في الدورة الثانية أوكرانيا: زيلينسكي يؤكد خسارة باخموت ويقول "لم يتبق شيء" الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن من اليابان عن حزمة أسلحة أميركية جديدة وذخائر إلى كييف طرفا الصراع في السودان يتفقان على هدنة لأسبوع قابلة للتمديد قائد فاغنر يعلن السيطرة على باخموت وأوكرانيا تؤكد استمرار المعارك اختتام أعمال القمة العربية باعتماد بيان جدة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الجامعة العربية لتمارس دورها التاريخي في مختلف القضايا العربية رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي معتبرين ذلك خطوة هامة نحو تعزيز التعاون العربي المشترك، ونثمن الجهود العربية التي بذلت بهذا الخصوص الرئيس الأسد: أشكر خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على الدور الكبير الذي قامت به السعودية وجهودها المكثفة التي بذلتها لتعزيز المصالحة في منطقتنا ولنجاح هذه القمة الرئيس الأسد: أتوجه بالشكر العميق لرؤساء الوفود الذين رحبوا بوجودنا في القمة وعودة سورية إلى الجامعة العربية الرئيس الأسد: العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم، لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربياً ضد الشعب الفلسطيني المقاوم ولا تنتهي عند الخطر العثماني ولا تنفصل عن تحدي التنمية كأولوية قصوى لمجتمعاتنا النامية، هنا يأتي دور الجامعة العربية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها شرط تطوير منظومة عملها الرئيس الأسد: علينا أن نبحث عن العناوين الكبرى التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا كي لا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب الرئيس الأسد: من أين يبدأ المرء حديثه والأخطار لم تعد محدقة بل محققة، يبدأ من الأمل الدافع للإنجاز والعمل السيد الرئيس بشار الأسد يلقي كلمة سورية في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة الرئيس سعيد: نحمد الله على عودة الجمهورية العربية السورية إلى جامعة الدول العربية بعد أن تم إحباط المؤامرات التي تهدف إلى تقسيمها وتفتيتها الرئيس التونسي قيس سعيد: أشقاؤنا في فلسطين يقدمون كل يوم جحافل الشهداء والجرحى للتحرر من نير الاحتلال الصهيوني البغيض، فضلاً عن آلاف اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون في المخيمات، وآن للإنسانية جمعاء أن تضع حداً لهذه المظلمة الرئيس الغزواني: أشيد بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي آملاً لها أن تستعيد دورها المحوري والتاريخي في تعزيز العمل العربي المشترك، كما أرحب بأخي صاحب الفخامة الرئيس بشار الأسد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني: ما يشهده العالم من أزمات ومتغيرات يؤكد الحاجة الماسة إلى رص الصفوف وتجاوز الخلافات وتقوية العمل العربي المشترك