هذا العالم يحتاج لمجنونٍ واحد ..

“لا مكان للعواطف في السياسة”.. رغم أنّ أغلب السياسيّين في هذا العالم يتشدّقون بالإنسانيّة في أهدافهم، وأن جميع مراوغاتهم ومرافعاتهم ونضالهم وكفاحهم واجتماعاتهم هدفها الإنسان!
على أرض الواقع، لا نجد إلّا الحروب والدماء، والاستغلال والاحتكار، والنهب والسلب لثروات البلدان المُستضعفة وفرض حكوماتٍ وسُلطات عميلةٍ مأجورة تتبع للصانع في سرّها وقد يكون في علنها، وتستغلّ الشعوب بفرض الآيديولوجيّات المعلّبة خدمةً لها ولصانعها و استقرارها وديمومتها.
هذا العالم، الذي انقسم لعدّة معسكرات ومحاور وأحلاف ومنتديات بناءً على رغبة الشياطين في حُكم هذا الكون من خلال الحروب تارةً والاتفاقيّات تارةً أخرى، ومن خلال التهديد والوعيد، أو الخدع السياسيّة الناعمة كالمنّ والسلوى في ظاهرها، بينما باطنها الخراب، والتاريخ حافلٌ بهذه الصفقات والمسرحيّات المُتكرّرة، والتاريخ في الوقت ذاته لا يعيد نفسه فقط، بل لكلّ ذكرى في طيّاته استثمار معيّن، وما أبشع استغلال الذكرى للدمار والدماء وإشعال فتيل الحروب لقتل الإنسانيّة أو وضعها على محكّ الفناء.
إقرأ أيضاً .. الهروب إلى الأمام ..
وبما أنّ الحديث عن التاريخ وذكرياته، فبالأمس كانت ذكرى ميلاد الرئيس الروسيّ بوتين، وكانت هديّة عيد ميلاده تفجير جسر القرم، الذي يُعدّ ثاني أكبر الجروح التي أصابت الكبرياء الروسيّ بعد تدمير فخر البارجات الروسيّة “موسكوفا”، ووضع روسيا بأكملها في “خانة اليكّ” لاتخاذ القرار الحاسم، بمقابل الهديّة التي أعلن مرسلوها بأنّها البداية فقط، لتعجّ نشرات الأخبار وتكثر التوقّعات بأنّ العالم على شفا حفرة من الفناء مع تعاظم الرسائل بين الأحلاف ووصولها إلى هذا الحدّ من الذعر والرعب واستخدام المحظور فيما بينها، لتكون شرارة فناء العالم قيد الاشتعال.
وللمصادفة، ولا أعلم كيف تطابقت التواريخ مع هذا الحدث، فقد توافق اليوم التالي مع ذكرى إعدام الثائر العالميّ آرنستو تشي غيفارا، والذي أعتقد بأنّ العالم بأسره بأمسّ الحاجة إليه وسط هذا الشرّ العاصف الذي يفتك بالإنسانيّة من كلّ حدبٍ وصوب..
فمن يقبل بهذه الترّهات التي تجري؟.
من يقبل شرور أمريكا التي لا تحصى وبغزوها العراق وتدميره؟.
ومن يقبل باستغلال الغرب لثروات البلدان الإفريقيّة وسرقة مواردها الثمينة في حين أنّ المجاعة والظلم تنهش بأطفالها وتحرمهم من حقوقهم؟
من يقبل باحتلال دول لأخرى تحت الفصل السابع أو بدونه، وضرب بنيتها التحتيّة وقتل سكّانها وفرض الحصار الاقتصاديّ وفق القوانين الظالمة كما تفعل أمريكا بسوريا؟.
من يقبل بقوانين الأمم المتحدة الناظمة التي تعترف بحدود البلدان من جهة، وتغضّ الطرف عن الاعتداءات من جهة أخرى، كما في الجولان السوريّ المحتلّ؟.
من يقبل بالقوانين التي تضع شعباً بأكمله في حصارٍ خانق يُحرم فيه الأطفال من الغذاء والكساء والوقاء من حرّ الصيف وقرّ الشتاء؟.
كلّ ذلك بقراراتٍ مرقّمةٍ من الأمم المتحدة التي عنونت في صدر أجندتها شعار الإنسانيّة؟.
من يقبل بهذا العالم المُنقسم بين شرقيّ وغربيّ، واشتراكيّ ورأسماليّ، ومحاور وأحلاف بين الدول القويّة التي تملك السلاح الفتّاك وتطحن الشعوب المُستضعفة عبر اصطفافاتها بـ “معَ أو ضدّ” وبكلا الحالتين تستغّل ضعفها وانتظارها فوز فريقٍ على آخر لتحصيل بعض المكاسب من الفتات؟.
هذا العالم يحتاج لذكيّ واحد من الطينة نفسها، صرخ في محافل الأمم وصارح الجميع بواقعهم المُخزي، وأعلن أنّ التمرّد حقّ وواجب عندما يحكم العالم حفنة من الحمقى.
هذا الرجل الذي ألغى الحدود فيما بين الدول، وأعلن أن حدود وطنه تلامس حدود المُستضعفين والمظلومين وأنّ قلب كلّ واحدٍ فيهم هو جنسيّته.
هذا الرجل الذي رفض أبشع استغلالٍ آيدولوجيٍ للشعوب عبر الأديان، واعتبر أن كرامة الإنسان هي الخط الأحمر المُقدّس الوحيد في هذه الدنيا.
وهذا الرجل الذي نادى بالقيم والأخلاق، وأعلن أنّ المرأة هي الوطن وهي الحياة وأن إعلان نصره سيكون في عينيها.
وأيضاً وأيضاً، وللمصادفة، فقد كان اليوم نفسه هو يوم مولد الرسول العربيّ محمّد، وأذكر أنّ وصاياه في أحد أحاديثه عن الحروب بتحريمه لقطع الأشجار، وتسميم المياه وردم الآبار، وقتل الأطفال والعجائز والضعفاء، بيد أنّ الحروب على أرض الواقع لا أخلاق فيها كما أن السياسة لاتعترف بالعواطف، فلم تكن المواقع الاستراتيجيّة ضمن حدود رسالته، ولم يكن الإعلام والبروبغاندا والتسويق محطّ اهتمام، ولم تكن الحيل والأفكار الهدّامة والفوضى الخلّاقة على دوره، وعلى كلّ حال، وبما أن الموروث الإسلاميّ الذي ارتبط بهذا الاسم وبغضّ النظر عن تنفيذ الوصايا وصحّتها من عدمها، فإن الهدف كان الرحمة، وما أرسلناك إلّا رحمةً للعالمين، وما أحوج هذا العالم للرحمة والتراحم.
واليوم، وبتواريخ هذه الأيام الغامضة التي يعتلي عبابها الخوف والاضطهاد والظلم، وفي ضوء مايشهده العالم من حروب ودمار وإقتراب الانهيار وتوقّعات المجاعة العالميّة، الأيام التي تشهد للإنسان صمته وسكونه وحتى خنوعه وألمه من ظلم الحكومات والقرارات في أيّ مكانٍ انتمى إليه أو وصل به المطاف سواء كان في الشرق أو الغرب، مع اليمين أو اليسار، مع الدين أو العلمانية، مع الإشتراكية أو الرأسمالية، وفي أي بلد، وتحت رحمة أيّ معسكر، وفي مكوثه في أيّ قارة ضمن هذا العالم المجنون في قرارات ساساته وأهوائهم ونظريّاتهم الاستراتيجيّة، فهو يحتاج للتمرّد حقّاً على كلّ شيء، فالقوانين التي لا تطبّق على الجميع وتستثني أحد الأطراف لا يحقّ لها أن تُحترم، ووسط هذا العالم الظالم المجنون لا يحتاج الأمر للسياسة، بل يحتاج لمجنون في الإنسانيّة مثل غيفارا وبأي مكانٍ في هذا العالم.
فهذا الثائر الأمميّ أعلن الهدف النبيل النهائي لحربه، بأن يحصل كلّ طفلٍ في هذا العالم على كوب حليب قبل الذهاب إلى المدرسة.
ألا تكفي مراعي العالم لأجل ذلك؟.
أم أنّ الأمر سيبقى لرعاة البقر؟.
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب