الأستانة .. خرق روسي لأكثر من جبهة معادية
طارق عجيب – رئيس التحرير
====================================
مما لا شك فيه أن اجتماع ” أستانة ” كان فيما سبق من عمر الأزمة السورية يرسم مشهداً عصياً على التشكيل، بل كان عصياً على التخيل قبل أن ينتقل ليرتسم على الورق، تمهيداً لتشخيصه على أرض الواقع .
لا نكشف سراً حين نذكر أنه لم تستسغ كل الأطراف المعنية بالأزمة السورية اقتراح روسيا – وبعضها لم يقبل – ، أن تستضيف موسكو المعارضة السورية بكل أطيافها على أراضيها لإجراء حوارات فيما بينها أولاً، إلى أن تتفق على قواسم مشتركة يمكن طرحها على طاولة حوار مع الدولة السورية ، يتم بعدها الانتقال إلى حوار سوري سوري ، يُنتج توافقات توقف دوامة العنف والدم والتدمير ، ويبدأ الحل السياسي وصولاً للخروج من الأزمة .
من الواضح أن إصرار روسيا على هذه الحوارات لم يكن محاولةً للحضور السياسي وحجز مكان في المحافل الدولية التي كان يقيمها الأميركي والغربي والدول الداعمة للحرب على سوريا بحجة أنهم يسعون لإيجاد حل في سوريا ، بينما كان هدفهم الحقيقي منع أي حل سلمي وسياسي ، وإطالة أمد الحرب والدمار ، بل كان الهدف الروسي من استضافة هذه الحوارات هو تحقيق إنجاز حقيقي على هذا المسار المحوري في حل الأزمة السورية لمن يريد بصدق وجدية إيجاد حلول سلمية وسياسية للأزمة.
العوائق والعراقيل ومحاولات إفشال المسعى الروسي ترجمته الأطراف المتضررة من هذا الحل عبر تصعيدٍ على الأرض ، ورفع وتيرة التسليح والدعم للتنظيمات الإرهابية واللفصائل المعارضة المسلحة ، وبالتالي زيادة الضغوط العسكرية على الدولة السورية وحلفائها في مواجهة هذه التنظيمات والفصائل ، التي يصلها السلاح والرجال والمال بكثافة عالية عبر الحدود بشراكة وتسهيل ودعم تركي كامل ، وصل حد إسقاط تركيا لطائرة روسية فوق الأراضي السورية ، فيما اعتبر رسالةً لروسيا ، تنقل عدم الرضا عن تدخلها العسكري في سورية .
سياسة الروسي على المسار الدبلوماسي والعسكري أثبتت نجاعتها ، حيث لم ينجر إلى الفِخاخ التي نُصبت له للإيقاع به ، بل كانت ردَّات الفعل الروسية تظهر ذهنيةً عاليةَ الاحتراف في التعاطي السياسي مع شؤون العالم ، وهو ما أصاب ساسة المعسكر المعادي لروسيا وحلفائها بالصدمة ، نتيجة حنكة ودهاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وطاقمه السياسي والعسكري ، وقدرتهم على إدارة الملفات بطريقة أعادت فرض روسيا كقطب دولي قادر على الوفاء بالتزاماته الدولية الواجبة عليه في إعادة التوازن إلى المعادلة الدولية للصراع العالمي ، والإسهام الفاعل في تغليب الشرعية الدولية والإنسانية في التعاطي مع أزمات العالم والمنطقة .
وبعد أن تمكن الروسي من فرض معادلات عسكرية بدعمه للدولة السورية وجيشها والحلفاء ، ذهب باتجاه ما اعتبره وليد المعلم وزير الخارجية السورية في أول طرح لحوارات موسكو ” اجتراحاً للمعجزة ” ، حيث تمكن الروسي من صياغة اتفاقات مع تركيا ، الطرف الأكثر تأثيراً على الميدان السوري ، لارتباطها الوثيق بمعظم الفصائل المسلحة المعارضة ، إضافة لما يدور من حديث عن علاقتها بتنظيم داعش ، وما تقدمه له من تسهيلات ودعم من تحت الطاولة وبشكل غير معلن .
الاتفاق الروسي التركي على وقف العمليات العسكرية في حلب والذي امتد لاحقاً ليشمل كافة الأراضي السورية ، أفسح في المجال لطرح فكرة اجتماع العاصمة الكازاخستانية ، الأستانة ، بين الفصائل المسلحة المعارضة ، وبين الدولة السورية ، وهو ما كان في السابق غير قابل للطرح أو النقاش من كل الأطراف ، إلا أن المعطيات التي تغيرت على الساحة السورية ، وتغيرت فيها خريطة السيطرة العسكرية والسياسية لصالح الدولة السورية بعد الدعم الروسي لها ، يضاف إلى ذلك تغير سياسات الطرف التركي نتيجة ظروفه الداخلية ، وعلاقته الملتبسة مع الأميركي والأوروبي ، وخاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة على أردوغان ، إضافة إلى تغير المزاج الدولي بقدوم رئيس أميركي جديد ، ومرشحي رئاسة في أوروبا يمتلكون وجهة نظر جديدة للتعامل مع الإرهاب ومع الأزمة في سوريا والمنطقة ، ومن المؤكد أن الروسي استثمر الفترة الانتقالية بين إدارة أوباما المنتهية ، وبين إدارة ترامب التي لم تبدأ بعد ، وتحت الضربات العسكرية الموجعة للتنظيمات الإرهابية وكل الفصائل المسلحة التي ترفض الانضمام إلى اتفاقية وقف العمليات العسكرية ، كل ذلك أسهم في تهيئة الظروف المناسبة ، ودعمَ التوجه الروسي لعقد اجتماعٍ يجمع الدولة السورية مع الفصائل المسلحة المعارضة في ” أستانة ” .
الخرق الذي أحدثه الروسي في هذا الاجتماع ليس فقط على جبهة واحدة ضمن المعسكر الذي يعادي روسيا في المنطقة والعالم ، بل يمكن اعتباره خرقاً على كل الجبهات ، بحيث اصبح بالإمكان العبور منه إلى خلف خطوط الدفاع الأولى للأطراف التي صنعت ودعمت ولا زالت تشغل عدداً كبيراً من الفصائل المسلحة في المعارضة السورية ، وهذا العدد الكبير من الفصائل على الأرض ، يمثل عدداً كبيراً من الأطراف التي تعبث وتعيث فساداً ودماراً وإرهاباً على الأرض السورية ، من هنا نستطيع أن نقدر عدد الثغرات التي أحدثها الخرق الروسي في اجتماع ” أستانة ” .