رئيس التحرير

الأزمة السورية .. المسببون والأسباب وطريق الخروج .. طارق عجيب ..

midline-news .. الوسط ..

ما انتهت إليه الأمور سابقاً في أوكرانيا، واليوم في أرمينيا .. وما انتهت إليه الأمور في العراق وليبيا وغيرها من بؤر التوتر المستمرة والساحات المفتوحة لما يسمى “الربيع العربي”، يؤكد لنا بوضوح مدى صمود الدولة السورية وبراعتها في استثمار أوراق القوة المتاحة بين يديها في لعبة الأمم  ..

ورغم أن الظروف والمتغيرات الدولية في العقدين الماضيين وبمشاركة مباشرة من الدول الكبرى في العالم وفي الإقليم، تمكنت من إحراق بعض أوراق القوة لدى الدولة السورية، ومن سرقة واستثمار بعضها، ومن تحييد وإضعاف بعضها الاخر، إلا أن الدولة السورية تمكنت بجدارة من تخفيف حدة نتائج خسارتها لهكذا أوراق، كما تمكنت من المناورة بحرفية عالية بما تبقى لديها من أوراق لصالح عدم الانهيار الكامل والسقوط .

تثبت الدولة السورية أنها ليست نظاماَ عابراً مهما تكالبت وتحالفت ضده دولٌ وجماعات وتنظيمات ومشاريع. بل هي نظامٌ راسخً ويستند إلى ثوابت وطنية وتاريخية وحضارية وبشرية قادرة على مواجهة الازمات التي تهدد وجودها، وقادرة على إدارة هذه المواجهة عبر افضل استخدام لما يتوفر بين يديها من عوامل قوة وأوراق تضمن لها عدم الخروج من لعبة الأمم مهما كانت التضحيات كبيرة والخسائر جسيمة .. فعندما تنتهي الحرب بمعاركها الكثيرة والضروس العسكرية والاقتصادية والإعلامية، يكون الأهم أن تجلس على طاولة توقيع إعلان إيقاف هذه الحرب، لا أن تكون من ضحاياها المهزومين  .

إعادة بناء ما خربته ودمرته الحرب يبدأ بعد إعلان توقفها، حينها تقوم الدول الناجية الخارجة من آتون الحرب بواجباتها في النهوض بجميع قطاعات الدولة لتعيد بناءها بشكل أفضل وأقوى وأكثر تحصيناً في وجه مخاطر المقبل من الأيام .

ومهما كانت تحفظاتنا كبيرة وانتقاداتنا لاذعة وقاسية على أداء الحكومات السورية (الظاهرية منها والباطنية) في الشأن الداخلي، إلا ان خُلاصات أداء الدولة في الشؤون الخارجية والداخلية يمكن احتسابه بنسبة كبيرة لصالح الدولة .

فعندما تفرض عليك الحغرافيا أدواراً مختلفة وقد تكون متناقضة، وتتنازعك المشاريع الكبرى الدولية والإقليمية، السياسية والاقتصادية، وتنهش فيك المشاريع الدينية والمذهبية والعرقية، وتستهدفك المشاريع الاستعمارية والتوسيعة، وينخر جسدَك الفسادُ وحواضنه، والجهل والفوضى والفقر، وتستطيع رغم كل ذلك أن تحصن دولتك من الانهيار والتشظي، ومن أن تدهسك  المشاريع التي تستهدفك، لا بد هنا من وقفة متأنية للبحث بجدية عن أسباب هذا الصمود والاستمرار .

الروسي طرف في الأزمة، والإيراني كذلك، لكنهما ليسا الوحيدين ولم يكونا المسببين لها، الأطراف كثيرة وأسباب الأزمة ومسببوها أكثر، وهي لم تبدأ عام 2011 .

شركاء كثيرون في صناعة الأزمة السورية التي نعيشها، ولكي نكون منصفين بحق عقولنا وبحق التاريخ والأجيال القادمة يجب ان نذكر أسماء الأطراف جميعها .

نبدأ القائمة “بإسرائيل” الكتلة السرطانية التي تم زرعها في هذا الشرق لتكون ينبوع أزماته وبلائه .. ثم من صنعها من دول الغرب، بريطانيا فرنسا .. ثم من تبناها ودعمها، الولايات المتحدة الأميركية .. وبعد ذلك من اعترف بها وتحالف معها منذ نشأتها، روسيا الاتحاد السوفييتي، أوروبا، تركيا،إيران الشاه وغيرهم .. ثم يأتي دور الدول الوظيفية التي خلقها الغرب وكانت مهمتها تقويض أي عمل عربي أو مسلم ضد الكيان الصهيوني، الأردن ودول الخليج .. أيضاً هناك جماعة الإخوان المسلمين التي شاركت بنشاط إجرامي مع استلام حافظ الأسد الحكم في سوريا عام 1970 .. ثم انضمت إلى القائمة مصر أنور السادات التي وقعت أول اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني .. وجاء بعده ياسر عرفات بكل ما يمثله ليوقع اتفاقية أوسلو .. انضمت بعد ذلك الوهابية التي بدأت تفرض نفسها وتنشر تعاليمها وجنودها مع ازدهار المؤسسات الدينية في أنظمة النفط والغاز .. وانضم المشروع الفارسي للجوقة بلبوس مذهبي شيعي بعد ثورة الخميني .. ثم كان احتلال العراق للكويت، فحرب الخليج الأولى وما تلاها من تداعيات وتبعات وحلقات متتالية .. ليأتي احتلال العراق وسقوط صدام حسين والفوضى الكارثية المقصودة في العراق ليسهم في تأزيم وتأجيج الخراب في المنطقة .. فاقتسام العراق بين الاميركان والإيرانيين .. لتظهر التنظيمات والفصائل الإسلامية بفصائلها ومذاهبها تحت عناوين مقاومة الاحتلال الأميركي والإيراني .. ثم استثمارها من قبل الدول العالمية والإقليمية الشريكة في خراب العراق .. وللبنان منذ إعلانه ببنيته الطائفية وحربه الأهلية دوره المطلوب في الأزمات العربية بشكل عام والأزمة السورية بشكل خاص .. كل ذلك في خدمة المشاريع الإقليمية والصراع العالمي القديم والجديد على شرايين الاقتصاد العالمي التي فرضت الجغرافيا على سوريا أن تكون الممر الإلزامي لأفضل الخيارات لمسارات هذه الشرايبن.

كل ما ذكرناه سابقاً ما كان ليحقق ما حققه لولا أنه ترافق وتشارك مع أليات حكم وإدارة غير سليمة لشؤون الداخل في سورية، كان لها أثارٌ سلبية كبيرة على استقرار سورية بعد الإستقلال حتى عام 1970، ثم كان لها أسوأ الأثار على متانة الجبهة الداخلية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي بحيث سيطر الفساد وحواضنه على الكثير من مفاصل الدولة حتى الأمنية منها، وتمكنت الأفكار المتطرفة في ظل غياب مواجهة صحيحة لها من صناعة شروخ وأزمات داخلية عنيفة سمحت للمشاريع الخارجية بالدخول والعبث بأمن وتماسك المجتمع السوري، وتمكنت من بث سموم الفتنة والتكفير والإرهاب، أفضى كل ذلك إلى إنتاج واقعٍ هزيلٍ قابلٍ للتشظي والتخبط عند أول هزة عنيفة قد يتعرض لها، وهذا ما جرى عام 2011، واستطاع الأخرون استثمار هذا التشظي والتخبط بما يخدم مشاريعهم على اختلافها .

من المؤكد أن هنالك اكثر مما سبق وذكرنا من أسباب ومسببين، ومن المؤكد أن خيوط الأزمة ومشهدها الكامل غاية في التعقيد، لكن اعتقد ان ما تم ذكره أكثر من كافٍ لصناعة أزمة كالأزمة السورية التي وصفت بأنها من أكبر وأعقد  الأزمات في التاريخ الحديث،  لذلك من السطحية والجهل حصر أسباب ومسببي الأزمة الأخيرة في سوريا بأطراف محددة أياً كانت هذه الأطراف .

توزيع نسبة تحمل المسؤولية تختلف وتتفاوت من مجموعة إلى أخرى تبعاً للمرجعيات الإيديولوجية أو العرقية او الحزبية أو السياسية أو أي مرجعيات أخرى تزيد من غرائبية اليات التوزيع، وتبعاً للغايات والمصالح، لكن ما يجب التأكيد عليه أن الجميع شركاء في هذه الأزمة .

لذلك، عندما نقول أن ما يجري في سوريا سببه ” النظام” فهذا كلام منقوص وغير سليم، وإذا أردنا أن نضيف شركاء لهذا “النظام” فيما يجري وحملنا روسيا وإيران المسؤولية الكاملة مع ” النظام”، ايضاً نصل إلى نفس النتيجة، كلام منقوص وغير سليم، لذلك علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا أولاً ثم مع الأخر ومع التاريخ ونذكر كل من أسهم بأي شكل من الأشكال في هذه الأزمة، ولماذا ؟، حينها نكون قد عرفنا المسببين والأسباب .

التفكير بهذه الطريقة يجعلنا نبحث عن دوافع وغايات وأليات وأدوات مشاركة كل الأطراف التي ذكرناها سابقاً في الأزمة السورية، بعدها علينا صياغة فهمنا وتقييمنا لدور كل طرف، وعلينا التعاطي معه وفق ما يناسب دوره وغايتنا في الحصول على جدوى حقيقية من تعاطينا مع هذا الدور.

التفكير بهذه الطريقة يجعلنا نتفهم الكثير من السياسات والإجراءات الداخلية والخارجية التي تقوم بها الدولة ويتحفظ البعض عليها أو يصرخ معترضاً أو متهماً أو مهاجماً للدولة دون أن يعي مبررات ودوافع هذه السياسات والإجراءات.

التفكير بهذه الطريقة يضعنا على الطريق الصحيح لإنهاء هذه الأزمة والخروج منها بشكل سليم ويخدم سورية الدولة والوطن أولاً وأخيراً.

لكن،حتى نفكر بهذه الطريقة علينا أن نتحرر من كل ما من شأنه أن يكون أولوية على مصلحة الوطن، الدولة، المؤسسات، المجتمع، المواطن، العلم، المعرفة، المستقبل الأفضل لدولة حرة ذات سيادة بمعايير تضمن الحقوق والحريات والأمن والأمان بشكل كامل وعادل لجميع أبنائها دون أي تمييز.

*رئيس التحرير 
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى