إضاءاتالعناوين الرئيسية

وانتظرني لأتبعك .. مراد داغوم

وانتظرني لأتبعك .. مراد داغوم
أتذكر أنَّ ذلك الصيف كان بعد نجاحي إلى الصف الرابع الابتدائي، ولأنني أتذكر أيضاً أننا بعد ذلك بعدة شهور حُرمنا كأطفال من الصعود إلى السطح خوفاً على حياتنا، ولليوم أذكر جيداً قول والدتي لوالدي أنها عند جمع الغسيل تركت سروالاً (كلسون) أبيض اللون تلبية لطلب من الأهالي المحايدين أن يتركوا قطعة بيضاء على أسطحتهم. يعني أن عمري كان 5-6 سنوات، طفلاً يمكن أن يدرك ويميِّزَ أن ما يدور حوله هي أحداثٌ سعيدة أو مرعبة، دون أن يعرف شيئاً عن أدنى تفصيل أو عن أي سبب؛ فذلك العمر لم ينل بعد قرف التمييز، إذ يكفي الطفلَ أن يعيش الحالة إما ليستمتع، أو ليحزن، تكفيه المشاعر مؤونة حمل هموم الأسباب.
لذلك، رسخت بعض أحداث تلك المرحلة في ذهني حتى اليوم بصورتين، إحداهما سعيدة والأخرى مؤلمة. أعود إلى ذلك الصيفَ الذي حُرِمنا بعدَه من اعتلاء السطح، كان صيفاً سعيداً جداً، كانت سعادتي لا توصف في نصف الساعة التي كانت تخصصها المرحومة الوالدة بعد الظهر لتساعدني في حل صفحة واحدة في اليوم من الدفتر الصيفي باللغة الفرنسية الذي أعطتنا إياه مدرسة الراهبات لنحلّه، وجائزة 100 نقطة جيدة Bon Point لكل من يُحضره محلولاً بالكامل في بداية العام المدرسي التالي.
.

اليوم فهمت أن أسباب تلك السعادة أن أمي كانت تُعلمني والفرح يغمرها، أنظر في وجهها الضاحك فأتذكر عبوس وقسوة المعلمة أو الـMa Soeur، فأطمئن. ولأن جائزة مئة نقطة هي رصيد رائع بعد تسعة أشهر لم أستطع أن اًحصِّل خلالها أكثر من بِضع وخمسين نقطة. ولربما كانت سعادة أمي في اكتشافها أنها لم تنسَ بعد لغتها الفرنسية التي تعلمتها في مدرسة ابنها ذاتها، وأنها تستطيع تلقينه ما يلزمه. الحدث اليومي الأكثر إسعاداً، اعتادت أمي أن تمد فراشاً على السطح يتسع لأطفالها الثلاثة، بموازاة حبل الغسيل الذي تَنشر عليه ملاءة سرير مزدوجة، ثم تمد طرفيها لما تحت الفراش وتثبتها بما يتوفر من خردة على السطح، وتكون النتيجة خيمة ساحرة بالنسبة لنا، تُضاف إلى سحر بقعة الفردوس التي يطل عليها السطح، كان “باب النهر” آنذاك مكاناً أسطورياً بالنسبة لمداركنا، فبدون سماع ما يُعرف بقصص ما قبل النوم، وبدون سماع أغنيات المهد، كانت ناعورتا “المحمدية” و”القاق” تتكفلان عبر عذوبة عنينهما بعمليات التخدير. أما صباح باب النهر فكان سعادة بنكهة أخرى، لذلك كان سطح الدار جنتنا اليومية، وكان منعنا عنه مؤلماً جداً. فإذا أُضيف للحرمان سجن المنزل، وتلك الصيحات المرعبة غير المعتادة من أشخاص بثياب غريية، مع أصوات طقطقات رهيبة لم يكن الطفل يعرف معنى كلمة بندقية أو رصاصة. غدا الحال بتلك الإضافات مأساوياً لطفل.
.

لم نعهد وجود وادنا في البيت لساعات طويلة، كان ينظر إلينا بطريقة لم نألفها منه، حتى خرج في أحد الأيام غير عابئٍ بتحذيرات أمي وطلبها المتكرر منه البقاء، رأيناه ينضم لجماعات تهرول باتجاه مخفر “الحسنين” في هرج غريب، وكانت كلمة (صاج) تتكرر كثيراً في كلامهم. عاد والدنا بعد ساعات يحمل دوائرَ كبيرة، وعندما وضعها على الطاولة لاحظت وجود خدش رفيع طويل مائل على جبينه. نظرت أمي إلى الدوائر بحسرة وقالت له: أمن أجل هذه رميت نفسك؟ فأومأ إلينا متكتلين قرب الطاولة: (هدول ما بيفهموا متلك ومتلي، ما بدّن ياكلوا؟). مددت يدي أتلمس دائرة، كانت تبدو “مجعلكة”، وملمسها قاس، لا تشبه شيئاً نعرفه. وبعد حديث شبه هامس مع والدي، حملتها والدتي إلى المطبخ، فتبعتها، رأيتها تأخذ دائرتين، قسمت كل واحدة إلى أربعة أقسام، وصارت ترطب خرقاُ بيضاء تضعها بين كل قطعتين، وقالت لأبي: (هيك؟)، فنظر وقال: (إيه هيك مليح). وعندما أحضرتها إلى الطاولة مع وجبة الغداء كانت تبدو من انحنائها أنها أصبحت لينة، وعندما وزعتها أمي علينا عرفنا أنها بديل للخبز الذي نعرفه. بالرغم من تلك الأحوال، استمر النهر بالجريان، واستمرت “المحمدية” وجارتها الصغرى بالدوران والعنين، لم يأبَهِ النهر بالناس ولا بالأحوال، فهو من طبيعة أخرى لا تعرف البُغض…
.
لم تُوقِف النواعيرُ مواويلها، تضامنت مع النهر إذ حَجَبت عن عنينها التخدير الممتع، فغدا صوتها حدثاً معتاداً لا يثير الاهتمام. لم تستمر تلك الأحوال طويلاً، عادت الطمأنينة لمحيطنا، لكن الجَمال فارق التفاصيل التي كانت تُشع السعادة، فعندما يصبح أي شيء “مُعتاداً” يضحك المرء على خيبته ليقين مكتَسَبٍ أنه كساهُ من خياله ما ليس فيه.
.

*مؤلف وموزع وناقد موسيقي- سوريا

لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى