“نعمة المارستان” .. غسان أديب المعلم ..
“نعمة المارستان” ..
في بلادي، توجد مسابقة لأغبى وأقبح تصريح، وبدون مبالغة، هي مسابقة متعمّدة يتفنّن بها الوزراء والمدراء والمسؤولين بالتنكيت والتهريج والاستغباء والاستخفاف بالعقول عبر التصاريح “الرسميّة” على مدار الساعة.
وللأمانة، فقد يكون صاحب التصريح “الأدهى” غباءً والأكبر صدى بسخرية الشعب هو صاحب النصيب الأكبر في استلام الوزارة المُقبلة، فتاريخنا المجيد حافل ومُتخم بمثل هذه الحوادث، وقد يحظى ذلك المسؤول بما هو أكبر من الوزارة بكثير، فالمناصب “على قفى من يشيل”، فهناك جبهات تقدّميّة للصمود والتصدّي، وأعضاء مؤتمر وأعضاء مكاتب قطرية وقومية ولجان مركزيّة، وأعضاء وفود دبلوماسية ومستشارين، و الكثير الكثير، بحيث تبقى المداورة قائمة بين الأسماء التي تتجاوز نسبة ذكائها نسبة آينشتاين وديكارت ولافوازيه، وكذلك تتجاوز حدّة استفزازاتهم ماري أنطوانيت، أمّا كمّ البلاهة فحدّث ولا حرج.
لدينا من المعجزات مالا يعرفه العالم بأسره، وخصوصاً المعادلة التي كنّا نندهش منها في مقتبل العُمر، وهي معادلة “غضبوا عليه”، و في هذه المعادلة، يتمّ عزل مسؤول من منصبه بعد إشاعة قويّة تخصّ فساده، ليرموه مسؤولاً بعيداً في شرق البلاد وأقصى شمالها الشرقي، أو نقل أحدهم من مركز رسميّ إلى منصب حزبيّ، أو تسريح أحدهم وتعيينه محافظاً أو سفير!!، وغير ذلك الكثير ضمن المعادلة التي ينحني أمامها فيثاغورس وتالس.
هذه المعادلات والمسرحيّات بأكملها ليست وليدة الأزمة المعاصرة، بل هي التاريخ المجيد بأسمى معانيه، ومع ذلك، تستأجر السُلطة أو تصطنع الأبواق الذين يحفظون المعلّقات المُعلّقة على ستائر السلطة لرمي المُنتقدين المُشكّكين بالعمالة والخيانة والتعامل مع الأعداء إذا رفع سقف نقده عالياً، فعلى الجميع الرضوخ لمعادلة ثانية مفادها، أن لولا هذه “الإمّعات”، عفواً لولا هذه “النوابغ” لفرط عقد البلاد، ولاستباح الأعداء أراضينا، وهُتكت الأعراض، وشُرّدت الأفراد، ولن يبقى لنا أثراً ولا عين.
لم يعُد المثل القائل “اللي استحوا ماتوا” وفيّاً للغرض، ولا حتّى فحوصات الحمض النوويّ لو وجدت لاستقصاء ذرّات من الحياء والكرامة والشرف عالقةً في أوردة المسؤولين بذات نفع، ولم يعُد أيّ تغييرٍ مُرتقب على ذات الشاكلة يُحيي بارقة أمل واحدة، لقد دخلت بلادي للأسف بمرحلة “فجوة الاستقرار”، وأضحت “المسؤوليّة” بأكملها دُملاً خبيثاً يفتك قيحه المقزّز بالأرواح الساكنة في موتٍ السريريّ لا تُجدي معه الصدمات الكهربائيّة، ولا وجود للكهرباء أصلاً.
باتت “الثقة” في موقفٍ لا تُحسد عليه، وفي خبر كانَ، مهما دافعت عن حضورها الأبواق المُستنفعة من المُعادلات أو الخائفة، وبقيت مرحلة إعلان الوفاة، رغم أنّ الحلول كثيرة، ورغم الحصار والاعتداءات، ورغم السنوات العجاف التي لم ترتوِ فيها الأرض إلّا بالدماء، فأرض بلادي لا تحمل إلّا الخير، وهي ولّادة مابقي الدهر..
فهل يُعقل أن تخلو سوريا من ثلاثين شخصاً “على الأقل” احترافيّاً في عمله!؟..
هل يُعقل أن تخلو بلاد الحضارة الأولى من ثلاثين شخصاً “على الأقل” يمتلكون الضمير!؟..
هل يُعقل أن تخلو بلاد الأبجديّة الأولى من ثلاثين شخصاً “على الأقل” يجيدون التحدّث بجُملة مُفيدة من أربع كلمات لا أكثر!؟..
وفي النهاية، وبعد كلّ مسابقةٍ جديدة، أتذكّر دائماً المسابقة الجدّية التي حدثت في سوراقيا الشرقيّة، بما أن مصير الدولتين واحد “سوريا والعراق”، فقد خطب الرئيس العراقي السابق عبد الكريم قاسم أثناء افتتاح مشفى الأمراض العقليّة في بغداد أمام الجماهير الشعبيّة المُحتشدة عفويّاً بالقول:
// ياجماهير شعبنا العظيم، إنّ هذا الصرح الحضاريّ لي ولكم وللأمّة العربيّة جمعاء// ..
فهنيئاً لنا جميعاً بالمارستان ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق