قراءة العمل الفني … مراد داغوم

قراءة العمل الفني … مراد داغوم
في حوار قديم مع الدكتور “راتب سكر“، صارحته بجهلي في فهم طلاسم بعضَ الشعرِ، وسألته أن يساعدني على إمكانية تذوّق هذا النوع من الأدب الذي بدا لي غامضاً. كانت إجابته غاية في البساطة، إذ فتح ديوان “نسيب عريضة” وطلب مني قراءة سطور محددة، فقرأت: حِمصُ العَديَّةُ كُلُّنا يَهواكِ يا كَعبةَ الأبطالِ إِنَّ ثَراكِ غِمدٌ لسيفِ اللَه في مَثواكِ وسألني: ماذا فهمت من غمد السيف والثرى؟ فأجبت: ما زال الأمر ضبابيّاً، فسألني: من هو الملقب بسيف الله وتعرف أن مدفنه (الغمد) في حمص؟ فقلت: “خالد بن الوليد”، فقال: (وهكذا … الطلاسم ليست في النص، بل في ذهن القارئ)!
قراءة العمل الفني
لم “يُطَلسِم” الأمرَ أحد، فالكلمات تشرح ذاتها، وستجد المعاني طريقها إلى القرّاء على اختلافهم وتعددهم. لأنها كلمات، وفي اللغة نادراً ما يختلف الناس على معاني الكلمات بسبب المرجعيات الثابتة والمعارف المحددة. فهل ينطبق ذلك على العمل الفني أيضاً؟ في التشكيل والموسيقا، إذا افترضنا إمكانية التفسير والقراءة السابقين، يحتاج التطبيق إلى مرجعية ثابتة لكل تفصيل في عمل فني، مرجعية تعرض المعاني كقاموس، ولكن هذا ليس متوفراً. فأدوات القصيدة كلمات بمعان محددة، أما أدوات التشكيل والموسيقا فهي حمّالة أوجه متعددة وأحياناً لا نهائية من المعاني تخضع غالباً لمزاج المُتلقي. لا يمكن الركون مثلاً إلى شرح الألوان بالعواطف، فهذا حزين وذاك غاضب.. لأن إمكانية وجود عكس المعنى متوفرة أيضاً. ينسحب ذلك أيضاً على أدوات الموسيقا، فالمقامات والآلات تختلف في تأثيرها باختلاف أسلوب تناولها بيد الفنان. توجهت بسؤالي عن إمكانيات تأويل العمل الفني، وعن قراءته، إلى اثنين من كبار التشكيليين، مستمزجاً رأييهما في الموضوع، وكان الرأيان غنيين بأفكار هي عصارة فكر فني يمتد عميقاً إلى عشرات السنين من الإبداع والمعاينة والقراءة.
قراءة العمل الفني
في مرسمه ذو الحميمية الهادئة، استقبلني الأستاذ “مصطفى الراشد نجيبة” بلطفه المعتاد، وهو التشكيلي المخضرم المعروف، وبدا كأن أسئلتي استفزت شجوناً لديه، فتحدث من أعماق ذاته: ((عندما أقدم عملاً فنياً فأنا لا أقدم نوعاً من أنواع الأدب، العمل الفني ليس بيتاً من الشعر يمكن شرحه. أعط بيت الشعر لمائة إنسان ستحصل على شرح واحد وتصلك فكرة البيت ولكن بصياغات أدبية مختلفة، ولكن إن أعطيت اللوحة لمائة إنسان ستحصل على مائة شرح مختلف. وعندما أتناول عملاً فنياً لغيري لا أضع في ذهني تصورات، أنا أتفاعل مع العمل والشكل واللون بغض النظر عن الموضوع. لا تهمني دوافع الفنان بقدر ما تهمني الأدوات والأساليب ومدى تأثير كل ذلك في ذاتي. لذلك، لا أعاين العمل الفني من وجهة نظر الناقد، بالمفهوم المتعارف عليه للناقد الذي يرى أن مهمته هي البحث عن أخطاء، بل أعاين العمل باحثاً عن الجمال من أدق التفاصيل إلى أوسع الكوادر. عندما يكون للفنان قصد من عمله فهو صانع وليس فناناً، وأصبحنا أمام “صنعة” وليس أمام “فن”! فالصانع هو من يتقصد أي أمر في عمله بوعي معلوم، أما الفنان فهو يقوم بتلبية دوافع ذهنية لا واعية)).
قراءة العمل الفني
بدوره، وفي جلسة دردشة على الشبكة، قال الفنان العالمي الأستاذ زهير حضرموت عن التقصد والتخطيط للعمل الفني أن الفنانين التجريديين يعملون بلا تخطيط مسبق، وهناك آخرون -وأنا منهم- يخططون بفكرهم ويبحثون عن موضوع يحبونه ويظنون أن المشاهد يحبه، فهم يرضون أنفسهم والمتلقين، وحتى انهم ينجزون دراسات وتجارب عن العمل قبل تنفيذه. أضاف الأستاذ زهير: بالنسبة لمعنى العمل: يقوم الفنان بتنفيذ عمله بطريقته الخاصة وبمخزون فكره من المواضيع ويرسم بمشاعره الخاصة، فيتم تنفيذ العمل. ثم يأتي كل مشاهد ليرى العمل بمنظوره الفكري الخاص وبمخزونه العقلي من ذكرياته ومفاهيمه وشعوره الخاص به، فهذا المشاهد يفهم العمل كذا، والآخر يفهمه بطريقة أخرى، ويمكن أن تكون قراءة العمل الفني أحياناً بشكل مخالف تماما لمقصد الفنان ولكن ذلك لا يضر، فالعمل الفني يتسع بكثرة المفاهيم حوله. وعندما سألته: كيف يقرأ “زهير حضرموت” عملاً فنياً لغيره؟ أجاب: نحن الفنانون، تلفت انتباهنا القيم التشكيلية أكثر من غيرها. لا نتساءل لماذا هذا الفنان حزين أو فرحان بقدر ما يهمنا كيف عَبَّر ورَسَمَ خطوط جسم هذا الشخص وكيف لَوَّن المساحات!
قراءة العمل الفني
موسيقياً، أؤكِّد أن ما قاله الأستاذان أعلاه ينطبق تماماً على المجال المسموع من الفن، يمكن للمرء أن يُؤَوِّل عملاً موسيقياً كما استوعب ذهنه هذا العمل، ويبقى ذك ضمن حدود المعقول إلا إذا اعتبر أن رأيه هو قاعدة تلزم غيره تصديقها، وتلزم غيره بالحصول على الانطباع ذاته بعد تناول عمل فني. ولا سيما إذا كان رأيه واضح الجهل بوظائف أدوات الموسيقا، فيفرض عليك أن الملحن الفلاني استعمل آلة الماندولين لتقليد صوت الطير، فإن ناقشت ولم تقتنع قد ينفذ بك حكم الإعدام الافتراضي وهو الحظر من مملكته الافتراضية.
.
*(مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا)
لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews