شقق مفروشة !؟ .. د. نهلة عيسى

تشي المتابعة اليومية لمحتوى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي الوطنية, المقروءة والمسموعة والمرئية, وفي السنوات الأخيرة بعض مواقع الإعلام الصديقة, بأننا مركز الكون, وسبب لكل تجلياته, لذلك كل حدث, أو خبر عن أي مكان في الأرض: الصراع الأمريكي الصيني, فيروس كورونا, العملية العسكرية في أوكرانيا, تسونامي على السواحل الأمريكية الكندية, الأزمة الاقتصادية العالمية, سقوط طائرة في مكان ما, بل حتى ذاكرة الرئيس “بايدن” المتداعية , يحدث من وجهة نظر كتاب هذا المحتوى, لأن سورية موجودة, ولأنها موافقة أو رافضة, تبارك أو تلعن!! والنتيجة التي لابد أن يصل إليها متابع هذا المحتوى أنه لا يمكن أن تحدث أزمة في أي بلد في العالم, أو لا أن تقوم ثورة, ولا يمكن لخصم أن يصاب بمرض لسبب لا يتعلق بسورية!؟.
والغريب أن هذا اللغو العقيم, أكرر ثانية, هذا اللغو, في المحتوى الإعلامي الرسمي والشعبي, مكرس باعتباره حقيقة معرفية, أي أقرب ما يكون للبديهيات العلمية, وليس باعتباره وجهات نظر “في معظمها” متهافتة, تعكس أمنيات أكثر بكثير مما تعكس وقائع وحقائق موضوعية, وهي مليئة بالشتيمة والتشفي أو السرور, وكأن الرب بعدله يعاقب أو يكافئ هذه الدول لأنها تعادينا أو تناصرنا!! مما يؤكد أن الضحك على الذات, بات واحداً من شققنا العديدة, المفروشة بالوهم بأننا “قبّان” العالم, دون أن يعرف ذلك .. العالم!!.
وربما لا جديد في ذلك, إذ لطالما اعتاد أهل هذا البلد الحزين على التأرجح, وعلى السكن في الشقق المفروشة, فقط العناوين تتغير, فمرة يسكنون في شقة “التصدي”, وأخرى “الصمود”, وثالثة “الصبر”, ورابعة “اللا جدوى”, ولذلك من الطبيعي الوصول إلى شقة “الوهم” لفلسفة العدم, وللمحافظة على مبرر للعيش والبقاء, لأن الأفق بلا أفق, والأسعار نار النار, والرواتب عيدان ثقاب, والناس بدأت ببيع رؤوسها للمسلسلات للهرب من التفكير بالغد, لأن الغد أصبح يحتاج لعبوره سالمين, إلى تدابير احترازية شبيهة بتدابير الوقاية من الأسلحة الكيماوية! خاصة وأن مناجاة أبانا في السموات لم تعد حلاً للمشكلات, وأبانا الذي في الأرض أصم, لذلك فالوهم صار خياراً بديلاً عن الانتحار, رغم أن المسلسلات ومواقع التواصل باتوا أشد نكداً من الحياة الواقعية!!.
كما أسلفت, ربما لا عجب في ذلك, فحياتنا أصبحت سوداوية!؟, وادعاء عكس ذلك, ترقيع بائس لقماش متهالك, وفرار من وجع, خير طريقة لعلاجه .. فضحه, لنحتفظ للحزن بكبريائه, ولا أظن أننا مضطرون, أو من واجبنا اصدار نشرة عن طقسنا النفسي, وكيف نتلمس الوقائع من حولنا, لتوزع على “من يهمه الأمر” في الصالونات المكيفة, استجداءً لحل, ألم أخبركم قبل قليل: أبانا الذي في الأرض أصم, ومناداته .. مجرد حدث بائس آخر يضاف إلى أحداث أيامنا المجللة بالستائر الكاتمة للنور!!.
ولئلا تراق القطرات الأخيرة من ماء الوجوه, ولستر شقوق تتسع يوماً بعد يوم في نسيج كراماتنا, المحاصرة بالمحاضرات “بالشولات” عن الشعب العنيد, والامتحانات المستديمة للصبر, وامضاءات, واجتماعات, ونقاشات حادة على الصواب وعلى الخطأ, ومشاجرات حتى على ركن السيارة, وادعاءات متواصلة بفرح لقيا بشر لديهم الكثير من الوقت للتنطع والادعاء, فيرتشفون أعصابنا ووقتنا قهوة, وثرثرة, وطلبات, وحرد أننا لا نرد على الكلام, ولا الزيارات, وحسد مبطن أننا نبدو بخير, وأننا على أقدامنا ما زلنا نسير, رغم أنهم يتوهمون!!.
أقترح, أكرر (وقد كررت الكثير اليوم) أقترح إلغاء الشقق المفروشة, رغم أن ذلك ربما يقودنا للنوم في الشارع لأننا لا نملك ثمن الدائم, لعل العيش بلا توهم جدران, يصل بنا إلى اكتشاف أن المفروش استنزاف بلا طائل, والمُلك إلى عاقل وليس إلى موهوم, ألم يقل أجدادنا في موروثهم الشعبي: “الموونة بدها ركونة ما بدها مرا مجنونة”!؟.
قرأ أيضاً .. عقوبات مزاجها عالي!؟ ..
إقرأ أيضاً .. تهوية إحباطاتنا!؟ ..
*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter