ابن خلدون .. العرب والمسلمون

درج البعضُ على استخدام منشورات في التواصل الاجتماعي تُنسَب لابن خلدون وتتحدث بالذّم عن العرب، وهي للأمانة تكون صحيحة أحيانا في النّقل، أي في نقل الجملة بحد ذاتها، طبعا دون تكلف العناء في البحث عن تتمة المقولة، أو حتى محاولة فهم سياقها ومعانيها تماما. من هنا وجدتُ أنَّهُ يلزمنا البحث في هذه الظّاهرة والسّعي لتوضيح بعض الحقائق حولها وفق منهج استقصائي يسترشد بمقدمة ابن خلدون نفسها، وبأهم ما كُتِبَ عنها خاصة في هذا السّياق.
فهل كان يقصد في كلامه “العرب” كما نفهم نحن اليوم من الكلمة؟! والأهم من ذلك هل كان لابن خلدون موقفا مناهضا للعرب بالفعل؟!
أثناء البحث في هذه القضية الهامة وجدت خير دليلٍ فيها هو ما كتبه بتوسع الأستاذ الكبير الراحل (ساطع الحصري) وهو مؤسس وزارة المعارف (التربية والتعليم) السورية 1919 وواضع المناهج التعليمية في سوريا والعراق، كما أنه من مؤسسي كلية الحقوق في جامعة بغداد، ومدير دار المعلمين العالية في بغداد، وهو من رواد القومية العربية من جهة ومن دعاة فصل تعليم اللغة العربية عن التّعليم الدّيني (أفرد كتبا لتعليم اللغة وكتبا أخرى لتعليم الدّين)، وكان واجه صعوبات كثيرة في العراق بسبب ذلك، ولكن الحكومات هناك كانت دائما تميل ميله هو وتنصف منهجه الأكاديمي. كما أنه كان عميدا للمعهد العالي للدراسات العربية في القاهرة.
لقد أفرد الراحل الحصري كتابا تعاطى فيه مع المسألة وضع فيه كمية كبيرة من الشواهد والدلائل التي توضح بما لا يترك مجالا للبس حول مقاصد ابن خلدون في مقدمته بما يخص استخدام كلمة “العرب” فيقول:
“إن كلمة العرب في مقدمة ابن خلدون من الكلمات التي ولَّدت أغرب الالتباسات، وأنتجت أسوأ النتائج. ذلك لأن ابن خلدون استعمل الكلمة المذكورة بمعنى «البدو» و«الأعراب»، خلافًا للمعنى الذي نفهمه منها الآن، كما يتبيَّن من الدلائل والقرائن الكثيرة المنبثَّة في جميع أقسام المقدمة“
وفي سياق بحثه عن ذلك المعنى المقصود لدى ابن خلدون يتابع الحصري ليؤكد من خلال الشواهد، فابن خلدون في معرض قوله لأفكار مثل ” إن العرب إذا تغلَّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب” يورد ذلك في فصلين من الباب الثاني من المقدمة، وهذا الباب يبحث في “العمران البدوي”، بينما يفرد الباب الثالث للحديث عن الدول، والرابع للحديث عن الأمصار (المدن).
إن ذلك لم يكن ملاحظة خاصة بالحصري وحده، حيث نجد (البارون دو سلان) وهو مترجم وباحث ومستشرق فرنسي ايرلندي الأصل، كان قد نشر ديوان امرئ القيس ومقدمة ابن خلدون في القرن التاسع عشر، وهو يقول في ترجمته للمقدمة:
“إن ابن خلدون استعمل كلمة العرب بمعنى البدو في هذا الفصل، وفي الفصول التالية”
ثم يعود في المجلد الثّالث من التّرجمة للتّوكيد على معنى كلمة العرب، فيقول العبارة الصريحة التالية:
“إن عرب ابن خلدون هم الأعراب”
كان المترجم التركي (جودت باشا) قد انتبه إلى هذا المعنى عندما لم ينقل كلمة “العرب” إلى التّركية كما هي، بل استخدم في ترجمتها تعبير “قبائل العرب” وهذا لا ينسحب على كل العرب بطبيعة الحال، حيث لم يعد يستخدم تعبير “القبائل” للتعبير عن سكان المدن في الأزمنة التي تمت فيها ترجمة ابن خلدون من قبل (باشا) أو (دو سلان).
من أكثر القضايا أهميّةً للإثارة هنا هي مقاربة ابن خلدون غير المتحيِّزة، والتي لا تهدف لمحاكمة الشعوب ولكن لدراسة طبائعها، والبحث في دلالاتها وأسباب تَشَكُّلِها وفق منهج علمي حيادي تميَّز به العالم الجليل، فهو يحاول فهم السّياق والمُحَدِّدات التي جعلت من الأقوام البدوية عموما أقواما تميل أكثر للتوحش، فيقول في وصف القبائل في الشرق والمغرب:
“وأمَّا من كان معاشهم من الإبل، فهم أكثر ظعنًا وأبعد في القفر مجالًا، فكانوا لذلك أشد الناس توحشًا، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم. وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق، إلا أن العرب أبعد نجعةً وأشد بداوةً؛ لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط”
فابن خلدون هنا يُعيد السّبب في التّوحش وقسوة الطِّباع إلى اعتماد الأقوام البدوية على الحيوانات في معاشها كالإبل والأغنام، ويُشَدِّد على أنّ القبائل العربيّة كانت أكثر تلك الشّعوب المذكورة قسوة لأنّ اعتمادها كان غالبا على الإبل وحدها، في حين امتد اعتماد بقية البدو إلى الأغنام أيضا.
ولكن ابن خلدون نفسه وحتى نَتبيَّنَ عمق نظرته وحياديَّتها، كان لا يُنكِرُ على البدو سماتهم الحميدة فيقول أيضا أن “البدو أكثر نقاوة من أهل المدن”، كما ويصفهم بأنهم “الأكثر شجاعة”، لا بل إنُّه يضيف إضافة في غاية التَّنزُّهِ والإنصاف عندما يقول بأن “البداوة كانت تُعيدُ للإسلام بعض المناقبيَّة التي كان يفقِدُها في المدن”، وهنا أريد أن أمُرَّ على نقطتين في غاية الأهمية مع تفرعاتهما، وهما:
– “البداوة هي أصل كل المجتمعات البشرية”، وهذا الكلام لابن خلدون ذاته ولكل علماء الانتربولوجيا، حيث أن البداوة كحالة للرعي والتنقل كانت مرحلة من مراحل تطور المجتمع البشري، مرت بها كل الشعوب وبنطاق أوسع حتى من كلمة “شعوب” ولكن الإنسان، من هنا أجد أنّه من السذاجة والحمق أيضا الإساءة للبدو أو للبداوة والتعامل معها بازدراء لا يُعَبِّرُ إلا عن عنصريّة غير عارفة.
– الإسلام دين مديني وليس “بدويا” بالنّشأة الاجتماعية، فهو نشأ وترعرع أول الأمر في مدينتين هما مكة ويثرب، واللتان كانتا مدينتين تجاريتين ولم يكن سكانهما يعيشون في الخيام، ولكن في منازل مبنية. وأنا أَمُرُّ على هذه النقطة تحديدا من باب الواقعيّة لأن أغلب منتقدي العرب من مستخدمي كلمات ابن خلدون مجتزأة ودون معرفة بمقاصدها العلمية، هم من الذين يسحبون تهمتهم تلك عن “البداوة” ويلصقونها بالمسلمين في خلط دارج أيضا بينهم وبين العرب بغرض الإساءة والتهجم طبعا، وليس بغرض السّبر العلمي لحالة الحَمْل الموضوعي والحضاري المتبادل بين العروبة والإسلام، فكان لا بد من التّنويه لتلك الحقيقة الواضحة ولكن المُغَيَّبة، دون أدنى انتقاص من البدو، ولكن لتوضيح زيف تلك الادعاءات.
من الأفكار المهمة التي رصدها العلامة ابن خلدون قبل علماء النفس بقرون هي ظاهرة “ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب” حيث أعطى مثالا على ذلك في زمنه، وهو حسب قوله “تقليد الأوروبيين للعرب في اللباس والسُّلوك” ذلك أنَّ العرب كانوا هم المسيطرين والمنتجين للعلوم والمعارف والمنتصرين سياسيا وعسكريا على شعوب أوروبا.
إن الأستاذ ساطع الحصري وفي مجال سعيه لتصحيح اللبس القائم في استخدام كلمة “العرب” للدلالة على البدو، على الأقل في سوريا والعراق ومصر، إبان توليه لعدد من المناصب في مجال التربية والمعارف فيها جميعا، كان قد أصدر بلاغًا عامًّا في العراق — بتاريخ ١ كانون الثاني ١٩٢٤ — لَفَتَ قيه أنظار جميع المديرين والمعلمين إلى هذا الأمر، وطلبت إليهم أن يبذلوا جهودهم “لإزالة هذا الغلط بكل ما لديهم من قوة ونشاط”، ثم وفي كتابه الذي كتبه لمعالجة هذه القضية ودرء استخدامها للهجوم على العرب استنادا إلى مقدمة ابن خلدون قال ما لا أجد أكثر صدقا ووضوحا منه في التعبير عن حزني أنا شخصيا حيث قال:
“ولذلك كله يؤلمني جدًّا أن تبقى هذه الحقيقة الناصعة مجهولةً بين قراء العربية وكُتَّابها، وأن يُستمرَّ على إساءة فهم مقدمة ابن خلدون – من جراء ذلك – في الأحاديث والكتب والمقالات”.
إقرأ أيضاً .. أميركا .. ووسمة “القَدَر”..
إقرأ أيضاً .. “الكم والنوع”.. إعادة قراءة لمفاهيم “ثابتة” ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحاتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter