رأي

أميركا .. ووسمة “القَدَر”..

كثيرا ما يُطالِعنا بعض المحللين والكُتّاب في مجالات السّياسة والتّحليل السّياسي والإعلام بمقولات تُرجِعُ ما يَحدُث من تطوراتٍ على السَّاحة الدّوليّة، وخاصّة تلك المُفاجئة والتي تُعطي إيحاءات بأنها “تُخالِف وتَتَعارض مع المصالح الأميركيّة”، إلى “إرادة” تلك الإدارة الأميركية نفسها، فيُقال مثلا “إنّ ذلك يحدُث برضى أميركي” وأحيانا “بإيعاز أميركي”، لا بل وقد يذهب البعض لمحاولة اكتشاف أو إظهار “فوائد” ما و”مصالح أميركية” في هذا الحدث أو ذاك.

بصراحة، إن هذا النّمط من التّفكير لا يبتَعِدُ عن الواقعيّة كثيراً، ليس لأنّ كل ما يقوله صحيح، ولكن لأنّ لديه مبررات تاريخية وسياسية كثيرة، تَتَقدّمُها القُدرة التّدميريّة الهائلة لدى الولايات المتحدة عسكرياً وثقافياً، فهي كانت قد دَمَّرت عدداً كبيراً من الدول والمجتمعات خلال العقود السبعة الماضية عسكرياً، مما خدم سياستها العامة في الغزو الفكري والثقافي لتلك الشعوب ولغيرها أيضاً، فخاصِيّة “التَّوحُّدِ مع البطل” موجودة في علم النفس، وكان ابن خلدون أيضاً تَحَدَّثَ عن “تقليد المنتصر” حيث تلجأ الشعوب وخاصة على مستوى الجماعة “الجماهير” إلى محاكاة لاواعية لسلوك وأنماط وأحوال الأقوياء وبالتحديد تلك التي تنتصر عليها، وهذا يَندرِج ضمن الآليات الاجتماعية النفسية الدفاعية، التي تسعى الضَّحيّةُ من خلالها للهروب من وصمة “الهزيمة” أو حتى “التّأخر الحضاري”.

من ناحية ثانية، الولايات المتحدة تمكّنَت بصورة فعلية من تمرير الكثير من الأحداث التي بدت وكأنها “هزيمة لها” (11 أيلول مثالا) في حين أنّها كانت تَخدُم مصالِحها بالحقيقة، الأمر الذي يعطي مزيداً من الواقعية لتلك الطروحات التي تُعَظِّم من دورها، ولكن ذلك كله يجب أن لا يضعنا موقعاً نُسَلِّمُ فيه تماماً بهذه الطروحات حول “قدرية” هذه القوة العظمى، خاصّةً مع كل المتغيرات التي تحصل في عالم اليوم.

منذ نشبت أزمة الحرب على سوريا مطلع العقد الماضي، واظب عدد من المحللين وعند كل محطة واستحقاق على القول بأن “الأميركيين والروس اتفقوا من تحت الطاولة” واعدين متابعيهم والجمهور المتألم بالحلول القريبة نتيجة ذلك، ولم يتوقفوا عند هذا الحد بل ذهبوا إلى أن هناك “حاجة أميركية للتهدئة في المنطقة” وهي مقولة قرأتُها عشرات المرات خلال الأعوام المنصرمة، وكلّما أراد هؤلاء المحللون تقديم وعود وتطمينات عن “قرب انفراج الأزمة”، تماماً كما قرأت عشرات الكتابات عن أن “هذا الأمر تم بموافقة أميركية” كلّما حدث مستجد ينطوي على تحدٍّ ما للسياسة الأميركية هنا وهناك.

إنّ هذه الطّريقة في فهم وتعليل الأحداث تذهب بعيداً في تصوير الإرادة الأميركية على أنها “مُطلقة” و”قادرة على كل شيء”، لأن البنية الفكرية لهذه التحليلات ترفض الاعتراف بقوة أخرى قادرة على المساهمة في صناعة الأحداث التاريخية غيرها، حيث كانت محطّات مثل تحرير الجيش العربي السوري لحمص أو حلب، أو استعادة العلاقات بين سوريا وأي دولة في العالم، تُسبَغُ عليها هذه الاستنتاجات المُحبِطة، والمُحبَطة ربما على حدٍّ سواء، فبينما كان باطن هذه الأحداث ينطوي على تآكل في السّيطرة الأميركيّة على مُجريات الأحداث، كانت تتشفع لها تلك المقولات وتعيدها إلى رونقها كقوة “لا منازع لها على الإطلاق”.

أثناء ترديد هؤلاء المحللين لتلك الآراء عن “التّفاهمات تحت الطّاولة”، و”الحاجة الأميركيّة للتهدئة” كانت المزيد من المعارك والحروب والمواجهات تنشب على خريطة فالق النظام الدولي المحتضن لخريطة المواجهة الشرقية الغربية، فاندلعت الأحداث في العراق غيرة مرة، والحرب في اليمن وأرمينيا وتفاقمت في ليبيا، ومحاولات تفجير الساحة اللبنانية وصولاً إلى معركة أوكرانيا، في صورة تدل إذا دلّت على انزعاج الولايات المتحدة من سير المعارك الميدانية والعسكرية في سوريا ولبنان والعراق، وعن رغبة عميقة وملحة لدى أميركا في الاستمرار في محاولة كسر عظم الحلف المواجه لها، وإصرارها على إطلاق المزيد من الأزمات بعيداً عن تنبؤات “التهدئة والاتفاقات”، ما يؤكد قدرتها على افتعال المواجهات بالفعل، ولكنه يؤكد أيضا عدم قدرتها الكلية على التحكم بالأحداث، لأن كل تلك المواجهات تأتي كمحاولات لاستيعاب وإجهاض التغيرات الخارجة عن رغبة وسيطرة القطب الأميركي الأوحد.

في الأيام الماضية حملت تطورات ملف المواجهة الإيرانية السعودية مفاجأة كبيرة للأوساط السّياسيّة والمتابعة، خاصة وأنها جاءت بوساطة صينية، لتثبت قراءات صف آخر من المحللين السياسيين حول بدء أفول العصر الأميركي، وكون هذا القرن سيكون  قرناً جديداً لا مكان فيه للاستثمار في التطرف الإسلامي كما كتب صاحب هذه السطور مطلع الألفية هذه، في قراءة لتصاعد دور روسيا والصين لقيادة العالم، وهي دول غير معنية بالاستثمار في هذا التطرف على كل حال.

إن ملامح التصدّع في جدار السيطرة الأميركية على العالم لم تبدأ يوم أمس عندما استجابت كل من السعودية وإيران للمساعي الصّينية الحميدة، ولكنها أخذت طريقها للظهور مع بداية العملية العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا والتي حملت تغيراً كبيراً ولافتاً يومها، وهو موقف دول الخليج الذي تمايز عن المواقف الغربية والأميركية تحديداً، لا بل وذهب لعقد المزيد من التقارب والتفاهمات مع روسيا والصين، حتى على مستوى العمق في بنية النظام الدولي وعصبه الاقتصادي الرئيس. إن هذا قد لا يعني بالضرورة “انقلاب كل الدول الصديقة لأميركا على أدوارها”، ولكنه لا بد أنه يعبر حتى عن تلك الحاجة للعب أدوار جديدة بين الشرق والغرب وعدم الاكتفاء بلعب دور الملحق في السياسات الغربية، وبرغم عمق تلك العلاقات العربية الأميركية الكبير خلال العقود الماضية.

اليوم، السّوريون واليمنيون واللّبنانيون على أقل تقدير، يَتَلَمَّسون بِتَوقٍ شديدٍ انعكاس كلّ ذلك على المَلفّات الأكبر والأبرز في الإقليم وهي الحرب والحصار على كلٍّ مِن سوريا واليمن، وخنق الأجواء اللبنانية مع النفخ في جمر الانقسام والطائفيّة فيها لدرجة الانفجار والشّلل التام، دوناً عن هذه الملفات الثلاثة تبدو كل التّطورات الأخيرة وبرغم أهميتها على مستوى النظام الدولي، والذي سيشهد المزيد من التغيرات الدرامية فيه لصالح الشرق العظيم، ولكنها ستبقى باهتة في عيون شعوب هذه الدول التي تقترب من اليأس بتسارع كبير.

 

إقرأ أيضاً .. “العقوبات” والمساعدات .. في ميزان واقعي ..

إقرأ أيضاً .. العَلمانيَّة .. العِلم وأمور أخرى ..

كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحاتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أهم الأخبار ..
بعد 3 سنوات من اختطافه.. جائزة فولتير تذهب لكاتب عراقي موسكو: الرئيسان الروسي والصيني قررا تحديد الخطوط الاستراتيجية لتعزيز التعاون الجمهوري رون ديسانتيس يعلن ترشحه للرئاسة الأميركية للعام 2024 الأربعاء البيت الأبيض يستبعد اللجوء إلى الدستور لتجاوز أزمة سقف الدين قصف متفرق مع تراجع حدة المعارك في السودان بعد سريان الهدنة محكمة تونسية تسقط دعوى ضدّ طالبين انتقدا الشرطة في أغنية ساخرة موسكو تعترض طائرتين حربيتين أميركيتين فوق البلطيق قرار فرنسي مطلع تموز بشأن قانونية حجز أملاك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بطولة إسبانيا.. ريال سوسييداد يقترب من العودة إلى دوري الأبطال بعد 10 سنوات نحو مئة نائب أوروبي ومشرع أميركي يدعون لسحب تعيين رئيس كوب28 بولندا تشرع في تدريب الطيارين الأوكرانيين على مقاتلات إف-16 ألمانيا تصدر مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الانتخابات الرئاسية التركية.. سنان أوغان يعلن تأييد أردوغان في الدورة الثانية أوكرانيا: زيلينسكي يؤكد خسارة باخموت ويقول "لم يتبق شيء" الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن من اليابان عن حزمة أسلحة أميركية جديدة وذخائر إلى كييف طرفا الصراع في السودان يتفقان على هدنة لأسبوع قابلة للتمديد قائد فاغنر يعلن السيطرة على باخموت وأوكرانيا تؤكد استمرار المعارك اختتام أعمال القمة العربية باعتماد بيان جدة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الجامعة العربية لتمارس دورها التاريخي في مختلف القضايا العربية رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله: نرحب بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي معتبرين ذلك خطوة هامة نحو تعزيز التعاون العربي المشترك، ونثمن الجهود العربية التي بذلت بهذا الخصوص الرئيس الأسد: أشكر خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على الدور الكبير الذي قامت به السعودية وجهودها المكثفة التي بذلتها لتعزيز المصالحة في منطقتنا ولنجاح هذه القمة الرئيس الأسد: أتوجه بالشكر العميق لرؤساء الوفود الذين رحبوا بوجودنا في القمة وعودة سورية إلى الجامعة العربية الرئيس الأسد: العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم، لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربياً ضد الشعب الفلسطيني المقاوم ولا تنتهي عند الخطر العثماني ولا تنفصل عن تحدي التنمية كأولوية قصوى لمجتمعاتنا النامية، هنا يأتي دور الجامعة العربية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها شرط تطوير منظومة عملها الرئيس الأسد: علينا أن نبحث عن العناوين الكبرى التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا كي لا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب الرئيس الأسد: من أين يبدأ المرء حديثه والأخطار لم تعد محدقة بل محققة، يبدأ من الأمل الدافع للإنجاز والعمل السيد الرئيس بشار الأسد يلقي كلمة سورية في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة الرئيس سعيد: نحمد الله على عودة الجمهورية العربية السورية إلى جامعة الدول العربية بعد أن تم إحباط المؤامرات التي تهدف إلى تقسيمها وتفتيتها الرئيس التونسي قيس سعيد: أشقاؤنا في فلسطين يقدمون كل يوم جحافل الشهداء والجرحى للتحرر من نير الاحتلال الصهيوني البغيض، فضلاً عن آلاف اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون في المخيمات، وآن للإنسانية جمعاء أن تضع حداً لهذه المظلمة الرئيس الغزواني: أشيد بعودة سورية الشقيقة إلى الحضن العربي آملاً لها أن تستعيد دورها المحوري والتاريخي في تعزيز العمل العربي المشترك، كما أرحب بأخي صاحب الفخامة الرئيس بشار الأسد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني: ما يشهده العالم من أزمات ومتغيرات يؤكد الحاجة الماسة إلى رص الصفوف وتجاوز الخلافات وتقوية العمل العربي المشترك