رأي

مشجعة للمشجعين!؟ .. د. نهلة عيسى

أنا لست من عشاق كرة القدم, ولكن بلادي تعيش منذ يومين عن بعد حمى المونديال, ويتلاسن على مواقع التواصل الاجتماعي المشجعون المختلفون بالولاء لفرق متباينة المدارس كروياً, ويغطون خيباتهم من تراجع مستويات أداء فرقهم العالمية المحبوبة, بتوجيه الملاحظات والشتائم واللعنات لفريق كرة القدم الوطني, وكأنه المسؤول عن هزائم هؤلاء!؟.

كما قلت أنا لست من عشاق كرة القدم, لكن ربما من باب الخواء, أو ربما الرغبة في فهم ما يشعر به من يعشقون هذه اللعبة, ويتعصبون في ولائهم لفريق ما, قررت الجلوس في واحد من مقاهي دمشق القديمة لمشاركة المشجعين الولهانين متابعة واحدة من المباريات, وأنتهى بي الأمر بعد الصداع إلى التوهان, وإضاعة الطريق, لذلك دونما خجل ولا تردد ركضت نحو صوتين آدميين يتبادلان الحديث في ظل نور شاحب لمصباح يدوي يتوسطهما, ويبدو عن بعد وكأنه عين عجوز عن كل ما يحيط بها كليلة, ركضت نحوهما بعدما سرت رعدة خوف في جسدي, وأدركت فجأة أنني أضعت طريقي في الشام القديمة, وبدأت أتعثر على الأحجار العتيقة بخطى مترنحة, ذكرتني أني أهيم على وجهي منذ ساعات في الأزقة الضيقة التي ربما هي أكثر من غيرها, تعرف ما معنى اللعب, ولديها معرفتها الخاصة بالخسارة!؟.

كنت أريد أن اشارك في متابعة لعبة أصبحت سيدة واقعنا, فودعت الواقع وغرقت كساذجة بلهاء في الحضارات المتراكمة في بقعة واحدة من الأرض (الشام القديمة), آثار أشورية وبابلية وفينيقية وفارسية وإغريقية ورومانية وبيزنطية ومملوكية وتركية وعربية وغيرها, في هذه الرقعة الصغيرة من الكون, والتي تحكي تاريخ الوطن كله, وتلهب خيالي وحماسي لتحسس جذوري وتلمس تاريخي بعزه وسقطاته, ولكن رحلة استعراض التاريخ أغرقتني في مستنقع بشاعات الحاضر, وجعلتني أشعر وكأن المدينة القديمة غاضبة ومضربة عن الطعام, النوم, البشر, عن التاريخ نفسه, لأنها ترفض أن تنسب إلى هذا الزمان, وتأبى أن تدون كتب التاريخ يوماً أن جثث الهاون تمددت على أرضها, وأنها بدل أن تتجمل للسياح, ناءت بالجياع وبالراحلين كرهاً من منازلهم إلى منازلها العتيقة, والقلب نار فلا عين ترى تاريخاً أو جمالاً, فقط بسطات وبسطات, وكلٌ يكافح وحيداً ليبقى على قيد الرغيف أو قيد الحياة!.

كنت أريد أن أفهم كرة القدم, فزلت قدمي وسط البيوت المتعانقة في تعب وحنان, وفي الأحياء الشعبية شبه المسقوفة, حيث الياسمين يخفي الفقر ويسدل الستائر البيضاء على ألوانه الكالحة التي تغطي كل المرئيات, وحيث مقاهي الناس المترعين بالهموم, يتكلفون الفرح والتعب يسطو على كل الملامح, ويأكلون نراجيلهم بطريقة أشبه بالانتحار الجماعي, ويحدقون بي دونما فضول, وعيونهم أقرب للنوافذ الموصدة على الذكريات, حيث الأمس بات حلماً, لأن الغد صار مبنياً للمجهول!.

كنت أريد أن أصبح مشجعة كروية, فوجدت نفسي بدلاً عن ذلك على أعتاب الجامع الأموي, ورائحة التاريخ الفواحة من كل حجر, كلما أمعنت السير في الأزقة اللولبية, كانت تصطدم بدوي أصوات المشجعين, لتسرقني من الأفق الذي أبحث عنه وفيه, ولترميني على أسلاك الكهرباء المتدلية على الجدران, والدخيلة على المشهد الممعن في القدم, لأصحو على وقع خطواتي في الزقاق الضيق الحزين, وليزداد سقوطي في حلم العودة إلى الأمس, أنا التي كنت أعتبر الغد ميتاً قصير العمر يولد!.

كنت أريد أن أودع الذاكرة المتخمة بالوجع, فودعني النهار خلسة ورماني في لجة العتمة, وفي الدروب الموجوعة, وعلى أبواب البيوت المقفولة بالغصات, والدكاكين التي تبدو كشيخ بائس ينتظر على الطريق عودة ابن ضال, وهياكل معدنية ألتصق بعضها بالبعض الآخر لمراجيح عارية وصدئة تشعر بالوحشة, وتصفر الرياح عبرها كصوت التنين, مع إحساس غامض بخوف عميق, حينما تهب علي رائحة زهر الليمون الرائعة الجمال, فلا أبتهج مثل زمان, ولكن أكتئب كما لو كانت عطراً ينذر بالفراق!؟.

كنت أريد أن أنسى ما نحن فيه من خيبات, فألقاني الهروب على درج الزمان الرديء, وخيرني في غفلة مني بين ما عشته وعرفته وعجنني وعجنته, وبين عالم بالنسبة لي مبني للمجهول, فاخترت الجري خلف الأصوات التي أحبها, أصوات من صابروا وصبروا, ويسترون أوجاعهم بالصراخ فرحاً بفوز فرقهم الرياضية, رغم أن كل ما يرشح من نبراتها المبهمة, يشي بزمن وعمر مرير, ولكنه أيضاً يشي بأن نبتة الرغبة بالفرح والحياة لا تموت, وأن بريق الأمل لم تخمد جذوته, وأن بالونات الحلم المتشظية فوق رؤوس الجميع, ما تزال رغم التشظي مطلقة السراح, وما يزال لكل منها تذكرة هوية وميلاد, ولذلك من الممكن أن تدخل المستشفى, ولكن من المستحيل أن تموت, لأننا في الوطن مصرين على الحياة حتى في مباريات كرة القدم.

 

إقرأ أيضاً .. إرث للبكوات!؟ ..

إقرأ أيضاً .. حظ عطيني!؟

 

 

*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب 

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى