مرايا الزمن الموحش … أحمد علي هلال

مرايا الزمن الموحش …
وفي عزلتهم أكثرية… ما أفدح هذا القول بغوايته الكثيفة وإيحاءاته الدالة..
فليس الأمر هنا محض حديث عن العزلة وامتداحها، والترنم بمآثرها، لنذهب أبعد من ذلك، ثمة مبدع في زمان ومكان بعينهما مازال تحت الضوء أثراً وسيرة، بعيداً «عن غبار الرثاء»، هو العابر لأزمنته وأمكنته البرية والبحرية واللغوية، فحيدر حيدر الذي كتبته الرواية ليكتبها هو كما شاءت حدوسه وهواجسه وكوامنه الخفية، لئن يكتبها وينوع في أزمنتها وأمكنتها وخطابات شخوصها، ليجهر بتلك الأرواح العارية ما خلا أحلامها.
.
إذن كيف نقرأ حيدر حيدر في غيابه الأخير، ذلك هو درس النقد لا درس الرثاء واجتراح حوائط المبكى. ولعل الدرس المنهجي النقدي في توقفه عند علاماته وعلى سبيل المثال لا الحصر «الفهد، شموس الغجر، وليمة لأعشاب البحر» سيتنكب غير طريق شائكة ومثيرة، تحمل طعم المغامرة لتذهب إلى مرايا الاكتشاف والدهشة أكثر، ذلك أن حيدر حيدر قد صنع أزمنة تخص نشيد الأرواح الجماعية.
لنقول إذن في نقض العزلة لأنها أصبحت أكثرية وبمعنى آخر كثافة لحظات القبض على تلك الصيرورات التي طبعت شخوصه كما لغته كما خطابه الروائي بامتياز، دون أن نتطير من مقولاته الثاوية في متون تلك الروايات بوصفها أفعال مغامرة محكومة أبداً بالتخييل المدهش، وبالقدرة على افتراع المأثرة لتصبح –الروايات- أكثر من دال لغوي، بل دال معرفي يحيلنا إلى تلك التخوم القصية والأقاصي البعيدة التي أثثها فكر ليفيض بعماراته الواسعة، حيث تقطن الأرواح لا تهجر، وحيث تعود اللغة بوصفها كينونة ذلك الصانع الباهر بشعرياتها العالية وتراسل أجناسها لتأتلف في غابات سردية تتنفس فيها اللغة كما يتنفس فيها الكائن/ الإنسان، ويتجول التاريخ في دروبها منتشياً وغير مكتفٍ بالحكاية وحدها، من نسجت حيوات طليقة تمضي كسهم واضح إلى أبعد… إلى الرؤيا، في المصائر ومثنوية الموت والحياة، وتراجيديا الحياة ذاتها، وكيف تنقلب في لعبتها الأثيرة في سياقاتها الجمالية والفكرية…
.
حيدر حيدر يضيء قلب العزلة وينهض الروائي أخيراً وتلتفت كل شخوصه إليه في لحظة فارقة، إلى موضع القلب منه لتقول إننا نحيا.