حديقة المسرح .. مبدع بمرتبة مواطن ..
لم يكن الدخول إلى تلك الحديقة، حديقة الجهد الكريم والفن التشكيلي والمسرح، نزهة للجسد فقط، بل كان كمن يقترب من الحقيقة بروحه قبل حواسه الخمس .. فهناك تتلمس بقلبك تفاعل أرواح سورية تتراكض على ضفتي مشهد الإبداع والألم .. فهم لا يتعايشون مع الواقع الصعب فقط، ولكنهم يحولونه إلى لوحة من الإنتاج الوطني ثم من الإنتاج الإبداعي عند نقطة تلاقي المستحيلات الممكنة .. الفن التشكيلي والمسرح والإرادة الخيرة.
قصتنا مع الحديقة بدأت منذ سنوات عندما أخذ المخرج المسرحي سامر ابراهيم زمام المبادرة لتغيير الواقع .. واقع تجمع حدائق واسع في أحد أحياء مدينة حمص الجميلة، والتي كانت مهملة متروكة في غياهب أولويات البلديات وترهلها ربما أحيانا .. في بلد الحرب والظروف القاهرة والخسارات التي لا تحصى ولا تُعد .. من هذه النقطة تحديدا استطاع المخرج أن يخرج الإنجاز من الحسرة، والنجاح من الفشل.
بدأ بخطواته الأولى مع مجموعة متميزة من أبناء المدينة من المهتمين بالثقافة وبالمدينة، وقد اختاروا لأنفسهم اسم “فضاء حمص الثقافي“.. بدأ بإزالة أول حجر، وبزراعة أول شتلة، وبتنسيق هذا وترتيب ذاك .. ثم أخذت الفكرة تنضج وتنمو مثل شجيرة ورد ماتلبث الوردات تغطي رؤوس أغصانها في كل اتجاه، بعد قليل من الاهتمام والرعاية بيدٍ خيرة تمدها بالماء أيضاً. لقد وصل الالتفاف حول الفكرة من السكان المحليين المحيطين بالحدائق إلى الأصدقاء من مختلف الأحياء والمؤسسات .. حتى النحات العالمي إياد البلال وضع له بصمة في قلب المكان، كما حل الفنان التشكيلي يوسف المحمد المدهش بعطائه وشفافيته ضيفاً كبيراً على جدران المكان، فحولها إلى بانوراما من التاريخ والحاضر.
في النهاية انتقلت الفكرة وهي تقفز بمرونة من تنسيق حديقة وخلق مكان مريح للالتقاء والجلوس والترفيه .. إلى أن تصير أيضاً حضناً لأبو الفنون .. المسرح، وقد أدت هذا الدور في حفل افتتاح حضرناه بمتعة واطمئنان يوم ٢١ تشرين الثاني، عندما تواطأت السماء كما ظننت مع المبدعين لحماية يومهم المفرح، فحبست أمطارها وجادت ببعض من الدفء حتى يصير كل شيء مؤاتٍ لاجتماع الناس تحتها لارتشاف جرعات من الجمال والغبطة والفرح ..
موسيقى ناعمة كالمقبلات تناولها الجميع قبل الوجبة الرئيسة في ذاك المساء .. ثم كان المسرح بحضوره القوي والمبهر .. بتقوى مستخدميه وابداعهم واصرارهم على أداء الأدوار بكل ما فيها من التفاصيل .. مجموعة من الأشخاص المريحين قدموا تحت راية المخرج الشجاع المجتهد لقطات مسرحية واقعية للغاية .. لامست وجع الناس دون إسفاف، ودون سوداوية أو حقد، وهذا أهم ما فيها من وجهة نظرِ متعمقٍ بالاجتماع السياسي كمثلي.
أما لماذا انتابني أنا تحديداً ذلك الشعور بالاطمئنان في سياق يبدو في الظاهر مختلفاً عن هذا النوع من الشعور، حيث يفترض أن تثير متابعة مشهد إبداعي مشاعر الفرح أو البهجة أو حتى الحزن والحنين ..
ولكن ما كان يطرق باب عقلي بهدوء ووعي ذلك المساء، كان صوتاً آخر .. صوت المستقبل الذي سيكون بخير رغم كل التهديم الذي تعرض له حاضره الذي يئن تحت وطأة الحرب والتخريب الممنهج لحياتنا نحن السوريين، لأن هناك مواطنون يرفعون سواعدهم ويُشهرون عقولهم وجرأتهم في صناعة الفن والإبداع وفي ترميم الإهمال والتقصير والخراب .. فيضعون أياديهم مع المؤسسات أو قبلها حتى في معركة الحفاظ على ما تبقى، والسعي الحثيث للنهوض به في وطن أريد له أن يزول ولكن الشرفاء من أبنائه صانوا حدوده الدنيا فمكنوه من البقاء.
يزيد جرجوس – كاتب وباحث سوري