ماذا لو حكى فلاديمير بوتين كلّ شيء ؟
جمال دملج ..
خاص – || Midline-news || – الوسط ..
عندما يقول ناسك القلم اللبنانيّ ميخائيل نعيمة في إحدى مقارباته حول رواية “الحرب والسلم” لعميد الأدب الروسيّ ليو تولستوي إنّ “الروح الروسيّة تتطلّع دائمًا صوب المحبّة والتسامح والسلام، وعدم مقاومة الشرّ بالشرّ، والبحث عن النظام في الفوضى، وعن الحياة في الموت”، فإنّ هذه الرؤية المستمَدّة من انعكاسات واقع حال دورة الحياة اليوميّة التي قُدِّر لابن بلدة بسكنتا المتنيّة أن يعايشها خلال مرحلة دراسته في روسيا (1906 – 1911)، وإنْ كان بارومتر توهّجها قد ارتفع حينًا وهبط حينًا آخر أثناء الحقبة الشيوعيّة التي استمرّت لاحقًا على مدى أكثر من سبعين عامًا من الزمان، قبل أن تخفت بشكلٍ محزنٍ جرّاء الارتدادات الناجمة عمّا شهده المواطنون الروس من فسادٍ وفوضى وسوءِ إدارةٍ في الحكم خلال السنوات العجاف التي تلت تفكّك الاتّحاد السوفييتيّ (1991 – 1999)، إلّا أنّ الزمن الروسيّ الذي بدأ في اليوم الأوّل من أيّام القرن الحاليّ، سرعان ما سجَّل على صفحاته مؤشّرًا لافتًا أعاد لهذه الرؤية تألّقها وعنفوانها، الأمر الذي تجلّى بوضوحٍ لدى تسلّم الرئيس فلاديمير بوتين مقاليد الحكم في قصر الكرملين، ولا سيّما أنّ التصريح الأوّل الذي أدلى به لدى انتخابه في شهر آذار (مارس) عام 2000، حمل من البراغماتيّة ما يكفي للتأكيد على أنّ “الروح الروسيّة تتطلّع دائمًا صوب المحبّة والتسامح والسلام، وعدم مقاومة الشرّ بالشرّ، والبحث عن النظام في الفوضى، وعن الحياة في الموت”، وخصوصًا عندما قال:
“إنّ روسيا الاتّحاديّة دولة ما زالت تمتلك الكثير من عناصر القوّة، وهي ترغب في استعمالها مع الآخرين وليس ضدّهم، من أجل إقامة عالمٍ متعدّدِ الأقطاب”.
هذا الموقف الذي بُنيت على أساسه ثوابت السياسة الخارجيّة الروسيّة طيلة السنوات الستّ عشرة الماضية، لم تكن أصداؤه قد اقتصرت على التردّد ضمن دائرة مجرّد بارقةِ أملٍ عابرةٍ أضاءت للناس طريقهم على إيقاع صخب بداية الألفيّة الثالثة وحسب، بل إنّه سرعان ما شكّل نقطة ارتكازٍ لإعادة صياغة الوعيّ الإنسانيّ بما تقتضيه أصول احترام قدسيّة وخصوصيّة الهويّات الوطنيّة للشعوب من واجبات، داخل روسيا الاتحاديّة وخارجها، وخصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الظروف التي رافقت عمليّة تكوّن واكتمال ونضوج تلك الثوابت، حملت من الدلالات ما يكفي للتأكيد على أنّ فلاديمير بوتين، حين تسلّم مقاليد الحكم بصفة رئيسٍ بالإنابة، إثر استقالة الرئيس الراحل بوريس يلتسين ليلة رأس السنة 1999 – 2000، كان يريد بالفعل الولوج إلى القرن الجديد بإشاراتٍ ناصعةٍ ومشرقةٍ، معتمدًا على حقّ بلاده الطبيعيّ في أداء ما يليق بمكانتها وقدْرها من أدوارٍ داخل المنظومة العالميّة، عن طريق الحوار وليس عن طريق المواجهة، أملًا في تصحيح مسار إبرة البوصلة الأميركيّة التي كادت أن ترمي الكرة الأرضيّة، من أقصاها إلى أقصاها، في الجحيم، على خلفيّة ما اقترفته الإدارات المتعاقبة على سدّة الرئاسة في البيت الأبيض بحقّ العالم من ذنوب، سواءٌ تحت تأثيراتِ أفكار “عقيدة الصدمة” و”الفوضى الخلّاقة” التي لم يكفّ المسؤولون الأميركيّون عن الترويج لها، أم عن طريق انتهاج السياسات الالتفافيّة التي غالبًا ما كانت تتجلّى عندما يُضطرّ هؤلاء المسؤولين إلى مصافحة اليد الروسيّة والدعاء عليها بالكسر في آنٍ معًا، على غرار ما حدث مؤخّرًا لاتّفاق كيري – لافروف بشأن وقف إطلاق النار على جبهات القتال في سوريا، وهو الاتّفاق الذي كان يؤمل منه أن يمهّد الطريق أمام وضع القطار السوريّ على سكّة التسوية والحلّ، لو لم يلتفّ عليه الجانب الأميركيّ بأسلوبٍ حمل في طيّاته نزعاتٍ أسخريوطيّةً واضحةً وفاضحة.
وإذا كانت الغارات التي شنّتها المقاتلات الأميركيّة على مواقع الجيش السوريّ في دير الزور يوم السابع عشر من الشهر الحاليّ قد حملت معها التعبير الأدقّ عن رذالة تلك النزعات وحجم مخاطرها وشرورها، فإنّ ما يبدو واضحًا في الوقت الراهن هو أنّ الرغبة في توسيع رقعة الحرب أصبحت وكأنّها من الضرورات الأميركيّة الملحّة، وذلك لاعتباراتٍ انتخابيّةٍ محليّةٍ بحتة، الأمر الذي عبّر عنه مؤخّرًا البروفسور ألكسندر دوغين، منظّر الحركة الأوراسيّة الجديدة و”دماغ” الرئيس بوتين الاستراتيجيّ، عندما أوضح في هذا السياق أنّ القيادة الأميركيّة الليبراليّة أصبح لديها من المعطيات ما يكفي للتأكيد على “أنّها لا يمكن أن تحكم العالم كلّه”، علاوة على أنّ “التهديد الذي يشكلّه ترامب ضدّ الليبراليّين يضع سيطرتهم على أميركا نفسها موضع تساؤل”، مشيرًا إلى أنّه “الآن، وفي حين أنّ الدمية باراك أوباما لا يزال في منصبه، ومرشّحة العولمة هيلاري كلينتون تتهاوى أمام أعين الناخبين الأميركيّين”، فإنّ الوقت يبدو وكأنّه بمثابة “الفرصة الاخيرة لبدء الحرب”، نظرًا لأنّ اندلاعها “سوف يتيح لهم تأجيل الانتخابات، أو إجبار ترامب، إذا ما فاز في الانتخابات، أن يبدأ رئاسته في ظروفٍ كارثيّة”. وهكذا، فإنّ المحافظين الجدد في الولايات المتّحدة يحتاجون إلى الحرب بسرعةٍ، وقبل فوات الأوان، نظرًا لأنّ دخول ترامب إلى البيت الأبيض قبل وقوع هذه الحرب، لا بدّ وأن يعني أنّها لن تقع، على الأقلّ في المستقبل المنظور، الأمر الذي يعني بالتالي “نهاية السلطة المطلقة لنخب العولمة المهووسة”.
هذا الكلام، لا بدّ وأن يكون كافيًا في هذه الأيّام لكي يعيد إلى الأذهان مشاهد المناطحة الانتخابيّة بين رأسيْ الفيل الجمهوريّ والحمار الديمقراطيّ في مطلع القرن الحاليّ، عندما تأخّر الإعلان عن فوز جورج دبليو بوش على غريمه آل غور عدّة أيّامٍ بسبب تعطّل أجهزة فرز الأصوات في أكبر دولةٍ تكنولوجيّةٍ في العالم، وذلك في سابقةٍ لم تنكشف حقيقة سرّها بعد، وربّما لن تنكشف في أيّ حالٍ من الأحوال، لأنّ أغلب الظنّ هو أنّها طُمرت تحت أنقاض هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 على برجيْ مركز التجارة العالميّ في نيويورك ومقرّ البنتاغون في واشنطن، ولن تظهر من جديد!
هجماتٌ.. وإنْ كانت قد مكّنت الولايات المتّحدة من إعادة تشكيل الارتصافات الدوليّة لصالحها، ولو إلى حين، بما سهّل لها الطريق أمام شنّ “الحرب على الإرهاب” في أفغانستان عام 2001، ومن ثمّ “الحرب على أسلحة الدمار الشامل” في العراق عام 2003، إلّا أنّ هذه الارتصافات سرعان ما تبدّدت على خلفيّة ما حمله السلوك الأميركيّ من معاييرَ مزدوجةٍ في هاتين الحربين، ولا سيّما أنّ الإرهاب أصبح أقوى من ذي قبل، علاوةً على أنّ أسلحة الدمار الشامل لم يتمّ العثور عليها بعد!
على هذا الأساس، ونظرًا لأنّ اليوم لا يُشبه البارحة إلّا من ناحية الضرورات الانتخابيّة الأميركيّة فقط، فإنّ ما يبدو مؤكّدًا هو أنّ أيّة مغامرةٍ عسكريّةٍ أميركيّةٍ مع روسيا في سوريا، لن تكون كسابقاتها من المغامرات المتهوّرة بأيّ شكلٍ من الأشكال، اللهم إلّا إذا أصرّ المحافظون الجدد على المبدأ القائل: “وبعدي الطوفان”.. فحينئذٍ فقط يمكن القول إنّهم يقرعون بذلك نواقيس الحرب العالميّة الثالثة وهم يدركون شرّ ما يفعلون.. وهنا ينبغي على الرئيس فلاديمير بوتين أن يقول كلّ شيء، وأن يفعل كلّ شيء!
وبالعودة إلى صفات الروح الروسيّة التي تحدّث عنها ميخائيل نعيمة، فإنّ مسك الختام في هذه العجالة سأقتبسه ممّا جاء على لسان البروفسور ألكسندر دوغين الأسبوع الماضي عندما تساءل في غمرة التطوّرات الراهنة قائلًا: “ولكن ماذا عنّا؟ نحن لسنا بحاجة إلى الحرب. ليس الآن، ولا غدًا، أبدًا. لم يحدُث قط في التاريخ أنّنا كنّا بحاجةٍ للحرب. لكنّنا قاتلنا باستمرار، وفي الواقع، دائمًا كنّا ننتصر”… وممّا لا شكّ فيه هو أنّ روسيا ستنتصر.
*كاتب لبناني