“كلمة الله” .. سياق واحد أم “تعليمات منفصلة”

أثناء متابعة حوار فكري على إحدى المحطات الفضائية، وفي معرض رد مقدم البرنامج على أحد الضيوف الذي كان يتحدث عن “إيقاف العمل ببعض الآيات من النص القرآني” قال المذيع: “وهل يجوز إيقاف كلام الله؟!”..!!
للوهلة الأولى بدا كلام المذيع “مُحرِجا” للضيف، خاصة وأن هذا النوع من الردود يضع صاحب الرأي أو الفكرة في مواجهة خطرة وغير منصفة مع المتشددين دينيا على أقل تقدير، حيث وبهذا السؤال الاستنكاري استحضر مقدم البرنامج شريحة واسعة وخطِرة من الناس معه إلى داخل الاستوديو للدفاع عن وجهة نظر ربما يحملها هو، ولكن أيضا ربما كان المذيع ولاحترافيته قد حاول دفع المتحدث، عبر حشره في “زاوية ضيقة”، لاستنفار إمكاناته المعرفية الفكرية، واستخدام ما لديه من المنطق للدفاع عن وجه نظره بأفضل صورة ممكنة، هنا سيحاول كاتب هذه السطور اصطحاب القارئ في جولة متبصرة داخل هذه الفكرة، للغوص فيها وفكفكة مضمونها لاستكشاف ما يختبئ وراء السؤال وما يمكن فهمه من خلاله.. “هل يمكن وقف كلام الله؟!”.
هناك سؤال عمره قرون ربما على الأقل، وهو يحتاج لفك عراه وفق رؤية لا يسعني أن أفرضها على الآخرين، ولكن يمكنني محاولة الإضاءة عليها بطريقة تصلهم، فما هو “كلام الله” على التحديد؟ وهل يمكن أن يُنسَب الكلام والأفكار لله اختيارياً، حتى لا نقول عبثياً، ودون رؤية شاملة للنص وللقصة التاريخية له!؟.
لدينا على الأقل وفق المفهوم البشري السائد اليوم كتابان يحتويان على “كلام الله وأفكاره” أو لنقل توجيهاته وتشريعاته، أحدهما بصورة حرفية وهو القرآن ككتاب يحتوي على تعليمات منسوبة مباشرة للإله، وكان حسب المعطيات المعروفة قد نُقلَ إلى الناس بصورة حرفية على لسان النبي محمد، والآخر نَقل قصّة “الألوهة ومشيئتها” بصورة مروية من خلال المسيح والطريقة التي عاش بها مقدماً عدداً من المفاهيم عن “الله” خاصة من خلال سلوكه الذي انطوى على تعريف بالإله وعلاقته “بأبنائه البشر”، ولكن أيضا بصورة منقولة عن لسان عدد من تلاميذه الذين عاشوا معه أو بعده بقليل. الكتابان يحتويان على عدد كبير من القصص والتعليمات التي يمكن أن تُقرأ كل على حدى، أو يمكننا أيضا دراستها ضمن إطار عام جامع، ووفق المنهج الفكري الواسع والعام لها، ومن خلال معرفة الظرف التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي أنتجها أو تدخل في بلورتها، أو لنقل بأنها غالبا جاءت مسايرة ومُتَفَهِّمَة له وآخذة لمكوناته بعين الاعتبار، خاصة وأن الشرائع الدينية ومن خلال الواقع المعاش لم تكن قَطعيَّةً بالفرض ولكنَّها كانت تَوجيهيَّةً بالعَرض، فالدين كما هو واضح لم يقرر فرض نمط جديد لحياة الناس وقناعاتها، ولكنه وضع ذلك النمط أمامهم ودعاهم لتبنيه اختيارياً، ولذلك تجد أن الكثيرين لم يتقبلوا أو لم يتبنوا هذه الرسالة أو تلك، كما أن من تبنوها أيضا تجد بينهم فوارق لا تُعدُّ ولا تُحصى.
لنأخذ مثالاً مبسطاً من قصة الإنجيل التي تحكي عن دخول المسيح إلى الهيكل حيث كان هناك تجمعاً للتجار، وقام المسيح بضربهم بالعصا تنبيهاً أو زجراً لهم على إساءتهم في الزمان والمكان. فهل يصح مثلاً أن يأتي اليوم من يحمل عصا أو يطالب بحمل العصي وضرب التجار بها بديلاً عن إجراءات وقوانين تنظيم السوق!! أو حتى ضربهم على الإطلاق كنموذج “للاقتداء بالمسيح” وفق فهم متطرف مغالٍ في فهم القصة وتحديد العبرة منها؟! أم نقرأ القصة بنظرة علمية نقدية تحاول إدراك مقاصد سلوك المسيح وقتها، ومحاولته القيام بتصحيح ما في ظرف ما معين.
إذا وضعنا القصة ضمن سياق قصة المسيح ورؤيته الشاملة، يمكننا طرح السؤال التالي: هل أراد المسيح ضرب الناس بالعصي، أم أراد الإصلاح لحياة أفضل تسمو بالروحانية والتسامح والمحبة؟، وبصورة أوسع .. هل كانت كلمة المسيح هي ما فعله مع تجار الهيكل، أم هي مجمل ما قاله وفعله في حياته؟!.
إذا انتقلنا إلى القرآن وعلى نفس المنوال والمنهج، يمكننا أن نُخرج بعض الآيات التي تتحدث عن القتال، كمثل:
((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) ..
لطالما قُرِأت هذه الآية واعتُبِرَت “مطلقة ونهائية المعنى” دون حتى إكمالها إلى حيث تقول:
((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّه))..
كما أنه غالباً يتم إهمال عددا لا بأس به من الآيات التي تتحدث عن التعامل والجدال بالحسنى، وعن حرية الاختيار حتى بين الكفر والإيمان:
((قُلْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍۢ))..
((لا إِكراهَ في الدِّين قَد تَبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغي))..
لا بل إن “الله يتوعد غير المؤمنين في موضع آخر بالمعرفة” حيث يقول النص:
((وقيلِهِ يا رَبُّ إنَّ هؤلاءِ قَومٌ لا يُؤمِنونَ، فاصفَح عَنهُم وقُلْ سَلامٌ فَسَوفَ يَعلَمون))..
الكلام في أكثر من موضع أعلاه وفق النص القرآني موجه لمحمد تحديداً، ويطلب منه أن لا يُكرِه النّاس على الإيمان. فأيّ ُ الأفكار من هذه النّصوص يمثل “كلمة الله”؟! وهل يَصِّحُ أن نأخُذَ جملة ما وأحياناً غير مكتملةٍ، ثمَّ ننسُبُها لإرادة “الله” ولمقاصِدِهِ؟! أم أنّه من الأفضلِ لنا ومن الأكثر علميّةً ومنهجيَّةً أن نحاول فهم مقاصد النّص أو “الرسالة” ككلمة واحدة ذات مضمون متماسك يُعَبِّرُ عن نسق إنسانيٍّ ذي فحوى هادِفة تَنُمُّ وتنطِقُ برغبة مودِعها بين أيدينا وفي عقولنا.
أعتقد أن من يؤمن بالإسلام له أن يقرأ ويتعرَّفَ على مُجمل الرسالة المُحمديّة من ألِفها إلى يائها، من خلال النَّص القرآني ومن خلال مطابقة محتواه مع سيرة حياة محمد، مطابقة مستنيرة تنسجم مع رقي الأهداف وإنسانيَّتِها، ثم ليستنتج هو بنفسه ما إذا كانت هذه الرسالة تهدف إلى “قتل الناس وفرض الإيمان ونظام الحكم عليهم بالقوة، أم تهدف إلى صلاح البشرية وتطوير الحياة إلى الأفضل! ضمن هذا السياق يمكننا أيضا أن ننظر في الأمر التاريخي للنصوص الناظمة لعملية سياسية هدفت لإنشاء الدولة التي شكلت الحامل الموضوعي للمشروع الحضاري الهادف لتنظيم العلاقات المجتمعية بين الناس، والرديف للحامل الفكري الوجداني أو “الروحاني” المتمثل بالتعليمات الروحانية الهادفة لتنظيم العلاقة مع “الله”، حيث يبدو أن هذين المحورين عملا معاً ضمن مرحلة الإعداد التاريخي لبناء دولة سياسية أراد المسلمون من خلالها نشر الرسالة وتعميم مبادئها بما فيه الخير للبشرية، وليس العكس مما تصوره البعض من أن “وظيفة الرسالة كانت إنشاء الدولة”.
إذاً فإن أخذ فكرة ما أو جملة منزوعة من سياق النص، ومستبعدة عن ظرفها التاريخي والموضوعي، قد يجعلها عرضة للتفسير والاستخدام الخاطئ، خاصة عندما نتحدث عن نص شمولي يهدف بتكوينه لإيصال فكرة عامة وكبيرة، ويصر عليها، ولذلك يقول هو عن نفسه بأنه “كلمة” وليس مجموعة منفصلة من الأفكار. من هنا فإن العمل وفق كل جملة من النص (أيّ نص) تتعارض مع الأغراض العامة له، يبدو هو الخطأ الذي يجب أن نتوقف عنده بتعجُّبٍ قبل المطالبة بوقفه. إن خير مثال على ذلك دعوات الاستهجان وإهمال “الفتوى” أو المطالبة بإعادة العمل بنظام الرق التي صدرت من بعض رموز “الربيع العربي” في تونس إبان انطلاقته، استناداً إلى النص القرآني المجتزأ الذي “لا يحرمها”، مع إهمال المقصد النهائي العام للنص، الذي يتوجه بوضوح لإلغاء الرق عبر الحض بعدة طرق والتوجيه لترك الرقيق كتكفير عن الكثير من الأخطاء.
هنا لا بد لي وانسجاماً مع المنهج العلمي في البحث والنقد، وحتى لا يوصف عملي هذا بالمجاملة والتجميل، فإنني أعتقد بأن النصوص والآيات التي تتحدث عن أمور مثل الرق والقتل، تبدو قاسية وغير منسجمة مع روح مفاهيم العصر الذي نعيش فيه، ومن هنا يأتي تأكيد الكثير من الدارسين والباحثين الساعين للموضوعية، إلى قراءة هذه النصوص ليس فقط في إطار النص الكامل، ولكن في سياق الحدث التاريخي والمعطيات الاجتماعية والسياسية الحضارية التي كانت سائدة فيه وتحكمه، وأتى النص ليتعامل معها كما هي وليس كما نريد ونعيش نحن اليوم.
إقرأ أيضاً .. المواجهة الأطلسية الروسية .. هل تنتهي بزوال الاتحاد الأوروبي؟.
إقرأ أيضاً .. سوريا والحلفاء .. معادلات الجوع والعوز ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحاتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter