سرّ الشعر المحكي.. عفوية وإحساس مرهف يحرضهما البشر والحجر والشجر

إذا كان الشعر الموزون هو انعتاق للروح، وبوح ينتقل من قائله الفرد- الشاعر، ليصبح ملكا للعامة- المتلقين والقراء، فإن الشعر المحكي (الشعبي، العامي)، هو أيضاُ بوح إنما عفوي وتلقائي. بوح عما يجيش في النفس، ويكمن سرّه في أدوات تحريضه: البشر والحجر والشجر، أي الإنسان والمكان والطبيعة.
وقد عُرف هذا النمط الأدبي (الشعر المحكي- الشعبي- العامي) منذ القدم، واستطاع أن يفرد لنفسه مكانة مرموقة كأحد الأنواع الشعرية المرموقة في الساحة الأدبية. إذ شكّل الشعر المحكي تكثيفاً للحظة، انفعالية، راهنة، يكتنفها جمال الوصف والتعبير ويغذيها إحساس مرهف يتسامى ليصل إلى القمة ويجعلنا نستمتع بنظمه ومضمونه في الوقت ذاته.
وكما معظم المحافظات السورية، يزدهر الشعر المحكي في حمص وريفها كثيراً.. ونجد الكثير من الشعراء الذين يتقنون هذا النمط ويبدعون به، بحيث شكّلوا روابط ومنتديات وجمعيات تُعني به.. واللافت أن غالبيتهم من مناطق حباها الخالق طبيعة أخاذة كوادي النضارة؛ فلا تكاد تخلو قرية من قراه إلاّ ويلمع فيها شاعر يقرض الشعر المحكي-العامي. ومنهم من طبع أشعاره في دواوين، ومنهم ما زال ينتظر الفرصة السانحة لتبصر أشعاره النور.
.

سرّ الشعر المحكي..
التقت “الوسط” بباقة من الشعراء، ليحدثوننا عن فضاءات الشعر المحكي، وطالما قلنا فضاءات، فهي تنقلنا بلا شك إلى الطبيعة الساحرة التي يتأثر بها الشعراء عادة. لذا كان سؤالنا للشاعر الأستاذ عفيف بيطار، من قرية القلاطية، عن تأثير الطبيعة ودورها في إظهار الإبداعات شعرية.
يقول شاعرنا: “ترجع وفرة عدد شعراء العامية- المحكية، إلى عشقهم لهذا النمط الجميل الآسر الذي يلهب مشاعر الجمهور. ويكمن سرّ جمالياته في الطبيعة التي زكّته، تلك الطبيعة البكر والجمال الرباني بكل تفاصيله، ومن الطبيعي أن يتأثر الشاعر بما حوله من جمال، إضافة إلى أن من يقرض هذا النوع من الشعر يتطرق إلى كافة المواضيع الاجتماعية والعاطفية والوجدانية والوطنية.. كما أن للجغرافيا دورها، فقرب قرى الوادي من لبنان كان له دوره في انتشار هذا النوع من الشعر”.
ويُعدّ الشاعر البيطار من الشعراء المعروفين في الوادي ولديه ديوان مطبوع بعنوان “وقف يا زمن” وفي حقيبته العديد من القصائد غير المنشورة؛ تكفي لعدة دواوين. وشارك في أمسيات شعرية وندوات أدبية، منها “مهرجان القلعة والوادي” السنوي، الذي يقام في شهر تموز من كل عام في منطقة الوادي.
الملفت أن شاعرنا رغم نتاجه الجميل؛ يعتبر نفسه هاوّ للشعر وليس شاعراً! علماً أنه يكتب الشعر منذ ما يقارب الـ45 عاماً. ولأن الشعر مرآة للواقع المعاش بكل تفاصيله فقد كتب عن العديد من الأزمات والأوضاع الاجتماعية المعيشية، كأزمة فقدان البصل مؤخراً، التي تلاها الزلزال المدمر، فقال:
لا تسأليني… ليش ما بكتب زجل… وصارت عداوة بين فكري والغزل… مهزوم نايم والعيون مفتحة… وناطر يجي الزلزال أو كيلو بصل.
وفي قصيدة “صرخة وجع” يقول مخاطباً وطنه الجريح الموجوع:
بعد ما كان جرح الوطن دامي… وعلى جبينو الوجع طابع علامة… بخيوط القلب خيّطنا وريدو …ودفعنا دم تيعيش بسلامة”.
.

البشر والشجر والحجر..
أما الشاعر سمير سارة، من قرية “مشتى عازار” فلديه أيضاً تجربة غنية في كتابة الشعر المحكي. وهو نقيب شعراء “ملتقى صافيتا الأدبي” الذي تمّ تكريمه قبل عامين، تقديراً لجهوده ونشاطه ومشاركاته في الملتقيات الشعرية لخدمة الزجل كموروث شعبي.
لدى شاعر سارة، ديوان يحمل عنوان ” ضيعة الشعر الحلو” وآخر يحمل عنوان “بستان الغزل”. وديوان ثالث قيد الطباعة سيحمل عنوان “سوريا المحبة” ويكشف العنوان أنه يتصل بالأحداث التي شهدتها سوريا خلال السنوات الأخيرة.
ويتنوع نتاج شاعرنا سارة بين الإنساني والاجتماعي والعاطفي.. لأن ثالوث الحياة البشر والشجر والحجر، مصدر تنوع قصائده.
وفي الشق الوطني، كتب بعد تحرير مدينة حلب، قصيدة يقول في مطلعها:
مبروك نصرك يا حبيبتنا حلب… بجيش سوري طول عمرو ما انغلب… الجيش بسوريا لسوريا روحو وهب… وعندو تراب الأرض أغلى من الدهب… بدم الشهيد النصر لبلادي انكتب… ورجعت حلب أم الثقافة والأدب”.
ومن قصائده، أيضاً بمناسبة يوم المرأة العالمي، جاء في مقتطف منها:
المرة بسوريا للوطن حلفت يمين… تصون الكرامة بالحفيد وبالجنين… ربت ولادا ع الشهادة بكل حين… رغم الألم والهم والحزن الدفين”.
.

عفوية وإحساس مرهف..
ومن مدينة حمص، تطل علينا الأديبة غادة اليوسف التي أفردت مساحة من إنتاجها الأدبي المتنوع بين القصة والشعر الموزون، للشعر العامي المحكي، الذي نثرته بعفوية وإحساس مرهف..
تقول: “أكتب الشعر العامي منذ زمن بعيد، خاصة حين تنتابني غواية الغناء، وهو قريب جداً لقلب الإنسان ووجدانه لأنه مترافق مع فطرتنا وتراثنا، سواء من حيث المفردات الجميلة المستخدمة في الوصف، أو من ناحية الغنائية التي تشكل سمة أساسية للشعر”.
وحول سؤالنا عن الفرق بين شعر الشعر المحكي العامي؛ والشعر الفصحى الموزون، قالت:
“كل تلك الأنماط هي شعر. وكل منها يخضع لقوانين صارمة في الوزن والقافية. لكن الشعر المحكي. دليل على العفوية والإحساس المرهف ، والتقاط اللحظة الراهنة بجماليتها”.
سبق أن تمّ تلحين بعض نصوص اليوسف، ومنها قصيدة بعنوان “أنا سوري” رددتها الكثير من الجاليات السورية في المغترب، تقول:
أنا سوري واقف بالصدر أنا سوري بيتمي وقهري وفقري وصبري بلفح البرد وجرحي الغدر…
لافف حالي بأحلى حضن بعلم بلادي الدفا والأمن ورداتو من دمي العطر…
“حمرا من ضحكات الزهر … والأبيض من قلبي الطهر… وعيوني الحلوين الخضر”.
.