حـبَّـات عـقـد الإرهاب والخيط البريطاني .. صحوة بريطانية في الملعب الخليجي
طارق عجيب – رئيس التحرير
==========================================
لا يمكننا القفز فوق قرار بريطانيا الانفصال عن الاتحاد الأوروبي دون التوقف عنده ملياً والتفكر في دوافعه وغاياته ، خطوةٌ أثارت الكثير من التساؤلات عن الأسباب الحقيقية التي دفعت ببريطانيا لاتخاذ هكذا قرار ، وهل تسعى من بعده لتكون قطباً مستقلاً متحرراً من تبعاتٍ أوروبية كانت تُـثقل كاهله ، وتُـعيق سياساته ” البريطانية الخالصة ” ، التي تستهدف فيما تستهدف ، شركاءَ أوروبيين ضمن الاتحاد ، قطباً يُـثـِّبـتُ نـفـسَـه ثالثَ الأثافي اللاتي يرتكز إليهن العالم ، إلى جانب أميركا وروسيا .
تسارعُ المتغيرات والظروف الدولية في الألفية الثالثة ، ظهورُ قوى اقتصادية وعسكرية جديدة على الساحة الدولية اقتربت من امتلاك القدرة على فرض شراكتها في إدارة سياسات العالم ، إضافة إلى ظهور تحدٍ جديد متمثل بالإرهاب الذي تضخم إلى درجة باتت تُـنذر بخروجه على أسياده وشق عصى الطاعة ، والتمرد على مصنعيه ، والانقلاب على مشغليه ، خاصة بعد أن نجحت دولٌ صغيرة أو هامشية في لعبة الامم في استقطاب هذا الإرهاب ، واستثماره بالشكل الذي مـكَّـن هذه الدول من مناطحة إمبراطوريات استعمارية عريقة وأخرى حديثة ، كل ذلك كان له الأثر الأكبر في استحضار ” الأب الراعي ” للتاج البريطاني ، ليضمن حصته كاملةً من مناطق السيطرة في العالم ، ومناطق الثروات والنفوذ .
وتفرض الأحداث الحالية في المنطقة والعالم ، البحث عن الدوافع والجهات الحقيقية التي تقف خلف كمٍ كبير مما يجري من أحداث ، وخاصة الكبيرة منها في العالم بشكل عام ، والبحث عن أهم الفاعلين والمؤثرين على بؤر التوتر فيه ، وبمراجعةٍ بسيطة للتاريخ البعيد وغير البعيد في منطقتنا ، ومقاربتها مع المعطيات والمتغيرات الدولية في أوروبا والعالم ، يقفز اللاعب البريطاني بشكل صريح كواحدٍ من أهم اللاعبين في لعبة الأمم .
منذ قرون طويلة كانت بريطانيا بأجهزة استخباراتها ودبلوماسيتها هي الفاعل الأقوى والأكثر تأثيراً في المناطق الشاسعة التي كانت تحكمها ، وبالتالي كانت مؤثرة بشكل كبير أيضاً على المناطق التي كانت تصطدم معها ، في لعبة تمرَّست فيها بريطانيا وأصبحت رائدة و ” أُم ” لمن جاء من بعدها وتبعِها وتعلم منها ، وتدرب بين يديها لاحقاُ ، فيـذكر التاريخ الحديث أن لبريطانيا ” الفضل ” الأكبر على الغالبية العظمى من الجماعات والحركات المتطرفة والدينية بشكل عام والإسلامية بشكل خاص ، حيث كانت الراعي الأول للوهابية في مهدها ، ثم رافقتها مع كل الدعم طوال مسيرتها وتطورها وانتشارها ، ولا زالت تملك تأثيراً لا يُـستهان به على زعاماتها ، ثم هيأت بداية القرن الماضي ، المناخَ المناسب في مصر لظهور حركة الإخوان المسلمين ، التي شـكَّـلـت الفكر الذي انطلقت منه معظم حركات وتسميات الإسلام السياسي ، ومن ثم انشقت عن الجماعة معظم التنظيمات الإرهابية التي نشأت في العالم الإسلامي كالقاعدة وغيرها ، وتتالت انشقاقات الخلف على السلف ، لتصل إفرازاتهم إلى منطقتنا ، ونتج منها لاحقاً جبهة النصرة وتنظيم داعش وغيرهما ، كما انتقلت عدوى هذا الإرهاب أيضاً إلى دول العالم كله ومنها بريطانيا .
عندما انسحبت بريطانيا عسكرياً من مستعمراتها السابقة ، كانت حريصة كل الحرص على تهيئة الأرضية المناسبة والصلبة لشبكةٍ استخباراتية قادرة على التحكم بأعلى وأهم المفاصل الحكومية والرسمية وإدارتها في الدول والممالك التي غادرتها مكرهةً ، وبذلك ضمنت استمرار نفوذها وبصورة أكبر على الحكومات والعروش رغم غيابها العسكري عن الأرض ، لأنها عرفت مَـوَاطِنَ الـضَّـعـفِ في تلك المستعمرات فاستثمرتها ، وقامت بزرع بذور الفتن بكل أشكالها ، ووسَّـعت شروخَ الاختلاف ، وزعزعت ركائز الاستقرار بتغيير معادلات التوازن في المناطق التي كانت تحكمها لصالح مجموعات وأشخاص يدينون لها بالولاء المطلق .
لم تتخل بريطانيا مطلقاً في ذهنيتها عن تاريخها وجبروتها الاستعماري ، كما لم تتقبل حتى الأن غياب الشمس عن مساحات كبيرة وكثيرة من إمبراطوريتها التي لم تكن في السابق تفارقها ، ولم تتنازل عن أطماعها فيما تبقى من أراضٍ ، يمكننا القول فقط أنها تراجعت ” تكتيكياً ” لصالح الأميركي المندفع بزخم القوة الفائضة لديه ، قوةُ ضاربةُ جديدةٌ ، استطاع البريطاني بمهارة أن يحقق مكاسب كثيرة بشراكته معها ، وكانت كفيلة ببلوغ البريطاني ، بواجهة أميركية ، غاياته بالشكل الأنسب له مرحلياً .
في العصر الحديث لعبت بريطانيا دوراً هـدَّاماً وتخريبياً ، سَـعَـت من خلاله إلى تصنيع الإرهاب واستثماره كسلاحٍ فتاكٍ تكون بامتلاكه قادرة على تحقيق غاياتها الاستعمارية ضد الدول التي تستهدفها ، فتخلق بسلاح الإرهاب أسبابَ الدمار الداخلي لهذه الدول ، وتوجد مبررات التدخل الخارجي فيها ، لهذا حـرصت بريطانيا على أن تكون صاحبة الحصة الأكبر والأهم في تأمين الحضن الدافئ لغالبية حركات وتنظيمات التطرف الإسلامي في العالم أجمع ، فكانت الملاذ الآمن لهذه الجماعات ولقادتها وزعمائها ، ولا زالت حتى يومنا هذا تشكل الحاضنة الضامنة لحرية تحرك وإقامة وإدارة كل النشاطات والفعاليات التي تحتاجها هذه المجموعات وقادتها وعناصرها لتنفيذ أجنداتهم ومشاريعهم وخططهم بإشراف وتنسيق مباشر مع الاستخبارات البريطانية .
لندن اليوم تعتبر عاصمة هذه الجماعات ومرجعيتهم التي لا تُـفـرِّط بهم ، بل تكاد تجمع حـبَّـات عـقـدهـم في خيطها الذي من الصعب جداً عليهم الانفكاك منه ، لتكون بذلك صاحبة الأثر الأكبر عليهم ، وعلى مساراتهم ، لهذا لا يمكن الفصل بين الحوادث الإرهابية التي تحدث في جميع مدن العالم وعواصمه ، ومن بينها العاصمة البريطانية لندن ، وبين ” الأم ” ، الراعي البريطاني للجماعات المتطرفة التي تنفذ هذه الحوادث والعمليات الإرهابية ، هذا ما أثارته وأكدت عليه الكثير من وسائل الإعلام البريطانية والعالمية ، ومراكز دراسات ، ومؤسسات بحثية واستقصائية قدمت الكثير من الدلائل التي تؤكد على وجود علاقات عريقة ووثيقة بين جهاز الاستخبارات البريطانية ، وغالبية هذه الجماعات والتنظيمات ، وطالبت بتفسيرات عن أسباب التهاون في محاربة ومكافحة الإرهاب في داخل بريطانيا وخارجها .
أما في منطقتنا ، فلبريطانيا حصة الأسد في سطوتها ونفوذها على الكثير من مستعمراتها السابقة ، وعلى الخصوص في دول وممالك وإمارات الخليج العربي ، فالمتابع يعرف دون عناءٍ كثير ، الحضور البريطاني الطاغي في مفاصل القرار العليا في تلك المنطقة ، ومدى تأثير بريطانيا المعلن والخفي على سياسات وقرارات دولها ، وما يتم التوقيع عليه في الغرف المغلقة أو تحت الطاولة من اتفاقيات ومشاريع وسياسات وعلاقات ، يفوق بكثير ما يتم التوقيع عليه في العلن أو فوق الطاولة ، وتَــشـي الأحداث الأخيرة في الخليج العربي ببعض ما يجري في الخفاء من صراع بين قوى وأجهزة استخبارات إقليمية وعالمية ، ولا بد أن تؤخذ صحوة البريطاني وعودته إلى الملعب الخليجي على محملٍ عالي الجدية والحذر ، بل هنالك ما يدعم بقوة حضوراً بريطانياً يعيدُ لبريطانيا وهجَها ” الإمبراطوري ” القديم ، ويُـسهم في تثبيتها كـقُـطـبٍ رئـيـس في الساحة الدولية ..