بوح كثيف الشجن … أحمد علي هلال

في بوح كثيف الشجن.. نقول: إنه الكتاب.
لا يوم بعينه ينصفه أو يرد بعض حقوقه على الذائقة والتربية والوجدان، بل الثقافة بأسرها تنوعاً وثراءً وتأسيساً حدَّ تشكيل الهوية.
.
هو كائن يقابله كائن آخر معرفي بالضرورة، ومن التبسيط التندر بأفول زمنه حينما كان الجليس والخل الوفي، ومساهر الأرواح والعقول، ومن التبسيط أكثر أن نقول باندياحه زمناً وممارسةً وإنتاجاً أيضاً في مقابل فورة التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي على تنوعها، لماذا الكتاب إذن وهو الواقف على شرفات حنيننا وتوقنا لما التصق بأعمارنا سيرة وذكريات، فكم كُتبت على متونها –تلك الكتب- هوامش عشق ولقاءات، ومحاورات ظريفة وتواريخ لا تُنسى، وكم توسدت أحلام قارئيها ليخبئوا بين دفتيها وردة ما، لعلها ذكرى لقاء أو وداع، وكم أُهديت لمن قرأوا ولم يقرأوا ، وقليل منها ما كان يعود لأصحابه، فهو هدية لا تُرد.
.
بوح كثيف الشجن
تندراً في هذا السياق كيف تُباح أفعال «سرقته»! ليظل مثل وردة الغياب، وكم بيعت مكتبات شخصية، وأُغلقت مكتبات شهيرة، وهُدرت أعمار كثيفة كانت تظللها يوماً، هو ذاكرة باقية… حقاً وصدقاً، لكنه ذلك الكائن الصامت الذي يجاورك ويحاورك ويدع ذاته بين يديك تُنقله وتتنقل به كيفما تشاء… وكم أصبحت عناوين كتب بعينها قارئة لسيرورات أعمار وحيوات وذكريات. وتلك العناوين التي راودت خيالات مبدعي السينما ليجهروا بأفلام لا تُمحى من الذاكرة، لكن الكتاب اليوم وأكثر من أي وقت مضى مازال في محنة الغياب، وتغير عادات القراءة، ليس بحكم غلاء الورق أو ندرته، بل أكثر من ذلك ثمة طقوس جديدة فرضها إيقاع القراءة السريعة والخاطفة، أشبه بنزهة فقط تقتفي فيها أثر الورد، ولا تذهب لقطافه ليصبح في أصيص غال، ذلك أنه كما ذهبوا، عصر الصورة الوامضة..
.
فهل تستطيع الكلمة أن تكون صورة، ذلك هو إعجازها العصري، وتلك هي ثقافتها المثيرة، وسيتندّر كثيرون بزمن الكتاب، توجساً واستدعاءً أمام ذاكرة أخرى هشة بالضرورة، وذات مزاج متقلب. سنقول هنا لا بأس بذاكرتين تتناوبان بقدر محسوب، لكن الأدل هو حضور الكتاب ليتصل بأزمنة الجمال والبقاء، فقد قيل إن الكتب هي عقول مجففة، وأن المكتبات هي صيدليات العقول، فهل نُشفى إذن؟.
.