“الكم والنوع”.. إعادة قراءة لمفاهيم “ثابتة” .. يزيد جرجوس

لطالما رَدَّدنا في مجتمعاتنا الشّرقيّة الكثير من المفاهيم والمقولات بصورة تَضَعُها في مكانة “الحَقائق العِلميَّة” أو “المُسَلَّمات”، لأنّها “ناتجة عن اجتهاد مُجتمع العلوم والتراكم الحضاري” مثل نظريّة “الكم والكيف” التي تقول بتفوق النوع على الكم، أو تُعلي من شأن النّوع عن العدد، ولكننا قليلاً ما جرّبنا إعادة قراءة هذه المفاهيم المؤطَّرَة خارجاً عن إطارها ذاك، ليس في محاولة لِنَسفِها، ولكن لاستنباط معانٍ جديدة لنفس المفاهيم التي وُلِدَت منها هذه المقولات، استنباطٌ يُعلي من قيمة المصلحة والواقع الذي أنتجته حركة التّاريخ والنّظريات فيه، وأيضا للتَّعمُق في المقصود منها بالضبط دون الاستسلام لعملية الإطلاق على العموم، فليس ثَمَّة مبدأ ومهما كان شاملاً يُمكِنُه أن ينسحب على كل الاحتمالات والمآلات.
في معرض قراءتي للمفهوم الذي يُنتِج مبدأ “تفوق النوع على الكم”، لا بد من الإقرار بأنه في كثير من الحالات والمواقف العملية والتاريخية تتغلب النوعيّة على الكميَّة، فكثيرة تلك المعارك التي انتصر فيها جيش قليل العدد ومنظم على جيش أكبر وأقل تنظيماً، فكلمة السر هنا هي “التّنظيم” أي النوع، وفي الإدارة والإنتاج تنطبق إلى حد ما هذه القاعدة، ولكن دون إهمال المقولة الشعبية التي تقول: “الكثرة تغلب الشجاعة”، وهي تطرح الاحتمال الآخر حيث أن كثرة كبيرة يمكنها أن تصرع أقلية منظمة ومؤهلة.
هناك مدارس عسكرية في التاريخ ركزت على مفهوم الحجم والعدد وحققت فيها انتصارات شبه دائمة، مثلا العقيدة القتالية السوفيتية التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية وكان أحد أهم مرتكزاتها هو مفهوم القوة العدديّة، خاصة وأنّ الألمان كانوا وقتها متفوقين تكنلوجياً وتنظيماً أيضاً ابتداء من العام (1943) بينما كان التفوق الألماني في بداية غزو الاتحاد السوفييتي أيضاً يعتمد على الكم، حيث حشدت ألمانيا في العملية (بارباروسا) أكبر جيش في التاريخ (4 مليون جندي) لاحتلال دولة جيشها كان (3.5 مليون جندي)، لم تلجأ ألمانيا وهي دولة غربية لمفهوم “النوع” في مخططها تماماً كما لم يلجأ السوفييت الشرقيين إلى نفس المفهوم، لكن لجآ كليهما إلى فلسفة الكم، وهذا لافت حيث أن المجتمع الغربي العلمي والسياسي والإعلامي هو الذي وجه إلى دول العالم مفهوم “الكم والكيف”، فهل استخدمه هو أم أنه لجأ لعكسه بشكل متكرر؟!.
في حرب “عاصفة الصحراء” لتدمير العراق سنة (1991) استقدم “الحلفاء” أكثر من مليون وربع المليون جندي للقيام بتلك العملية العسكرية، ولم يتبعوا نظرية الكيف أيضاً، ولكنهم في غزو العراق سنة (2003) عادوا ليستخدموا مفهوم النوع وليس الكم لتعذر إنتاج نفس الإجماع الدولي والقبول لذلك، ولكنه بدوره كان مبنياً على نظرية الكم حيث ظلت القوات الأميركية تقصف العراق على مدى 13 عام قامت فيها بـِ (75000) غارة جوية (16غارة يومياً) على مجمل مواقع الجيش العراقي والمحطات الحيوية في البلد المثخن بالجراح، بحيث تم إنهاكه نهائياً قبل غزوه، ولكن الماكينة الغربية ظلت تروج لنا فكرة “تقليص الجيوش المحترفة” في رغبة واضحة لعدم وجود جيوش كبيرة في العالم، ولكن ذلك لا يتوقف على العقيدة القتالية والحروب ويتعداه لمفاهيم كبيرة أخرى تعني الأمن القومي والمصالح الكبرى للدول، وإذا أردنا اليوم أن ننظر إلى خريطة القوى الاقتصادية الصاعدة في العالم سنجد أن الصين والهند هي أبرزها، وهذا في أحد مرتكزاته يقوم على الكم الكبير من السكان الذي ينتج عدداً من نقاط القوة:
– أسواق محلية واسعة لتسويق المنتج الوطني قبل الحاجة الضرورية للتصدير.
– قوة يد عاملة كبيرة وغير مكلفة مقارنة بالدول قليلة عدد السكان.
– سوق واعد ومغري بالنسبة للدول الأخرى التي لن ترغب بمقاطعة دولة لديها هذا الكم الكبير من المستهلكين، فمصر ذاتها اليوم تشكل إغراءً لا تمتلكه ليبيا مثلاً للشركات والدول المنتجة في العالم.
هذا لا يعني بحال من الأحوال نقضاً لمفهوم النوع خاصة لجهة القوة الشرائية للفرد أو مستوى الدخل، التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، ولكنّه محاولة للتناول المتوازن وللمفاضلة بين المفاهيم والحاجة لها حسب كل حالة، فالولايات المتحدة نفسها تشكل السوق الأكثر إغراءً وأهمية لكل الشركات العالمية ليس لارتفاع مستوى الدخل فيها فحسب وهي ليست صاحبة أعلى مستويات الدخل في العالم، ولكن لاتساع شريحة السكان لما يتجاوز (300 مليون) في حين لا تشكل دولة كقطر معدل الدخل فيها أعلى من الولايات المتحدة أي إغراء لشركات تود بيع الألبسة أو الهواتف أو المأكولات.. الخ.
هناك مفهوم آخر كثير الانتشار مفاده أن “الأهمية في الاقتصاد للتقنية والتكنولوجيا، وليس للموارد الطبيعية”، وهذا كلام يُطرَبُ له الكثيرون، وبالرغم من ذلك يمكننا إعادة قراءته واقعياً ومصلحياً أيضاً، ومجدداً ليس للتقليل من أهمية العلوم والتكنلوجيا التي لا يمكن وضعها في مواجهة الموارد، ولكن في خدمتها، لنسأل أنفسنا من هي الدول الأكثر حضوراً على الساحة الدولية اليوم والتي يحسب حسابها، سنجد أنه كما اتخذت الدول ذات التعداد السكاني الكبير مكانةً متصاعدة باستمرار، فإن الدول التي حازت على الموارد الطبيعية الأكبر حازت على مكانة لا يمكن تجاوزها لا بل وكانت قادرة على التأثير والاستقطاب ولعب الأدوار السياسية انطلاقاً من امتلاكها للموارد بمعزل عن شكل النظام السياسي فيها، أو وجود الثورة المعرفية، وليست المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلا أمثلة واضحة على ذلك. روسيا اليوم تقف بثبات في مواجهة المعسكر الغربي لمجمل أسباب واقعية يتقدمها موضوع الموارد، فالدول القارية التي تمتلك المساحة والموارد والسكان (روسيا الولايات المتحدة) تمتلك أفضلية لا يمكن القفز فوقها، لا بل إن هناك ميزة لا تسقط عن الموارد الطبيعية في مقارنتها مع “التكنلوجيا” وهي أنها لا يمكن نقلها، فتقنية المعلومات يمكن بسهولة انتقالها من دولة إلى أخرى، فالروس والأميركيون طوروا برنامجهم لصناعة القنابل الذرية بناء على المعارف العلمية التي انتقلت إليهم من ألمانيا التي لم تتمكن هي من صناعة القنبلة، وخسرت الحرب في مواجهتهما بسبب ذلك، بينما تقبع الموارد الطبيعية في الجغرافيا راسخة ولا يمكن نقلها، فحقول الغاز والنفط والقمح التي تمتلكها روسيا اليوم، وتمسك من خلالها بعنق زجاجة الصراع الدولي هي ملكها ولن يستطيع أحد أن يفعل شيئا في مواجهة هذه الحقيقة، بينما مثلا وبرغم حرص المعسكر الغربي على الاحتفاظ بثروته المتمثلة بالتقنية والصناعة (مثل صناعة الرقائق الإلكترونية واشباه الموصلات والسيارات والحواسيب والهواتف، وحتى السلاح) التي كانت شبه محتكرة لصالحه في النصف الأول من القرن الماضي وما قبله، إلا أنها اليوم تسكن في آسيا حيث فقد الغرب كل ميزاته فيها.
لا بد من أن تلك الفكرة عن “التقليل من أهمية الموارد” كانت تتسرب إلى وعي الشعوب وبصورة غير مقصودة ربما، من بين تفاصيل الغزو الفكري الغربي الذي أراد التقليل من أهمية ما تمتلك الشعوب، والتركيز على تفوقه التقني هو.
من الأفكار الأكثر انتشاراً وتداولاً بين الشعوب على مستوى العالم، وللأسف حتى بين “النُّخَب” التي تمتلك حصانة أكبر تجاه بقية الأفكار، هي “جدوى الليبرالية الاقتصاية السياسية الغربية” التي “تنتج الرفاه والنجاح الاقتصادي” لأنها “الوصفة الأنجع”. ترتكز هذه السَّرديّة الفكريّة على قصة النجاح الاقتصادي الغربي وما يحتويه من رفاه وخدمات اجتماعية، والحقيقة أنَّ ما تحتويه هذه القصة في نهايتها صحيح وصفِيّاً حيث بالفعل تعيش المجتمعات الغربية منذ عقود حالة من الرّفاه والخدمات الاجتماعيّة، ولكن هل هذا كل شيء؟! ألا تستحق الظواهر التاريخية النظر إليها من خلال منظور أوسع وأعمق!.
إنّ عمر حالة الرفاه هذه لا يتجاوز القرن من الزمان أو أكثر بقليل، هذا من جهة، أما من جهة ثانية فهو بني على وفرة مادية تحققت من خلال فترة الاستعمار التي سطت فيها تلك الدول الغربية على خيرات الشعوب، لا بل واستغلتها بشكل ممنهج وكبير عبر استخدام أبنائها في ميادين القوة العاملة أو العسكرية، وفتح أسواقها أيضاً لمنتجات الدول الاستعمارية مع ترسيخ عوامل التبعية والعجز، لِتُشكِّلَ سلةً متكاملة من الاستغلال العميق، ولكنها بالرغم من ذلك كله وصلت جميعها إلى استنفاد جل تلك الوفرة خلال بضعة عقود فقط، حيث دخلت كل دول المنظومة الغربية في حال المديونية وتفاقم الدين العام ليتجاوز حجم الناتج المحلي فيها كلها بما فيها الولايات المتحدة ومنذ ما قبل بداية القرن الحادي والعشرين .. فما الذي يجعل من وصفة “الليبرالية” وصفة “ناجحة” يجب علينا الاقتداء بها، إذا كانت مع كل ما حصلت عليه من دعم غير مشروع (سرقة الشعوب) وصلت إلى طريق مسدود خلال فترة زمنيّة قصيرة جداً!! إن اقتصاديات الغرب اليوم تترنح أمام العقوبات التي فرضتها هي على روسيا في حالة فريدة من نوعها على مستوى التاريخ الاقتصادسياسي العالمي.
“الطبقة الوسطى تنجز التغيير”.. “قاعدة” كثيراً ما سمعناها في الأوساط السياسية في ما يسمى “دول العالم الثالث”، حيث يقول من خلالها أعضاء التيارات الحزبية والفكرية السياسية بأن تلك الطبقة “هي التي تنجز الثورات لأنها تمتلك المعرفة ولا تملك ما تخسره”.
بصراحة لم أجد تصوراً أكثر سذاجة من هذا التصور، خاصة وأنه ينطلق من عقول وأقلام يُفتَرَض أنها تدرس التّاريخ وتسعى لِلتعلُّمِ منه، فالطبقة الوسطى تمتلك ما تخشى عليه وهو الاستقرار والفرص الدائمة للتطور والبناء، كما وأنها تمتلك أيضاً المعرفة الكافية لمنعها من ارتكاب الحماقات والمغامرات الهدّامة، وهي بذلك تشكل ضمانة ولكن ليس للتغيير وإنما للاستقرار والتطوير، وهذا بصراحة ما يدفعني للإشارة بوعي وبناء على الاستدلال المنهجي إلى أنَّه من علامات نجاح السلطات الحاكمة في الدول هي قدرتها على بناء الطبقة الوسطى معرفياً ومادياً، وتوسيعها بشكل يدعم مشروعها لتحقيق الاستقرار والنهضة، بما في ذلك الحالة السورية التي يجب أن تُعنى فيها الدولة والمجتمع فيها بمشروع الخروج من الأزمة المركبة التي اجتاحتها، على عدة محاور متلازمة يتقدمها محور الاستثمار في المجتمع السوري لتقريبه كله من مفهوم الطبقة الوسطى كما كانت قد فعلت ذلك قبل الحرب.
إقرأ أيضاً .. أميركا .. ووسمة “القَدَر”..
إقرأ أيضاً .. العَلمانيَّة .. العِلم وأمور أخرى ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب