إضاءاتالعناوين الرئيسية

“جظ مظ” .. د.محمد عامر المارديني

كعادتِها كلَّ يومٍ، تذهب هناء إلى الحديقة المجاورة هرباً من لظى صيفٍ متوقِّدٍ مترافقٍ مع انقطاعِ التيّار الكهربائيّ ساعاتٍ طويلةً. إنّها لا تستطيع أن تبقى في غرفتِها الصغيرة المركونة على أحدِ أسطح الأبنيةِ القديمة، والتي تخصُّها الشّمسُ الحارقةُ بنصيب وافر من لهيبِها، غرفة استأجَرتها منذ نحو خمسَ عشرةَ سنةً حين كان راتبها كافياً لها كمُدرِّسة في إحدى كلِّيات الجامعة. وكثيراً ما كانت ابنةُ جيرانها لينا طالبةُ الثانوية العامّة تشاركُها الجلوسَ في الحديقة لتسألَها عن بعض ما يصعبُ عليها فهمُه من الدّروس.

كانتا تجلسان على مقعد خشبيٍّ تتفيّآن ظلالَ شجرةِ زنزلخت ضخمةٍ فتنعُمان ببعض من النسيمِ اللطيف ينسيهما القيظَ الذي امتصّه بيتون البناء الذي يقطنانه. وكثيراً ما كان يقطع هدوءَهما الطويل عجوزٌ يقفُ بالقربِ منهما يبثُّهُما نظراتِ الاستجداءِ طالباً حسَنَةً بمظهرٍ يستدرُّ الشفقةَ وكأنّه جائعٌ أو مريضٌ أو مفتقدٌ لدفءِ الأسرةِ، فتفتحُ هناء حقيبتَها وتُخرجُ منها مايتيسّرُ حسبَ مقدرتِها من النقود، فتعطيه و تطلبُ منه أن يدعوَ اللهَ لها أن يفرِّجَ كربتَها، فيرفع يديه عالياً متوجِّهاً إلى السَّماء متمتِماً بكلماتٍ غيرِ مفهومة ثمّ يغادر.
ذاتَ يومٍ وكعادتِه طلب المتسوِّلُ من هناء صدقةً يشتري ما يسدُّ به رمقَه ،فقالت له: أرجوك أن تسامحَني، والله لا أملك إلا النذرَ اليسيرَ من النقود التي بالكاد تكفيني حتّى موعدِ قبضِ الرّاتب الشهريّ.  ألحَّ المتسوِّل في الطَّلَب، وعادت هناء تحلفُ بالله أنّها لا تملكُ ما تعطيه إيّاه، لكنّ إصرارَه المقيت أفقدَها صبرَها، ففتحت له حقيبتَها قائلة: انظر يا حجّي إلى الحقيبة ولن تجدَ فيها إلا ألفَي ليرة، خذ ألفاً منها واترك لي الألفَ الباقية وخلّصني، لقد عِيل صبري.
فتح العجوزُ الحقيبة بكلِّ وقاحةٍ وجعل يفتِّش فيها، ثم استدار نصفَ دورة باتّجاهِ جذع الشجرة وأخذَ يهزّ الحقيبة يمنةً ويسرة ثمّ أعادَها إلى صاحبتِها متجهِّمَ الوجه، غاضباً، ومشى مبتعداً وعينُه على شخصٍ آخرَ يجلسُ قرب بوّابةِ الحديقة، ليمارسَ مجدّداً مهنتَه في التسوُّل.
انفضَّ لقاءُ الجارتين، فقد كان لزاماً على هناء أن تتسوّقَ استعداداً للعودة إلى البيت تزامناً مع عودةِ التيّار الكهربائيِّ، وتمهيداً لتحضير وجبة المساءِ على صفيح كهرباءٍ ساخن. أخذت هناء تتأمّل في واجهات محالِّ الخضار تنظر إلى الأسعار لتختارَ ما يتناسب وميزانيّتَها المتواضعة ، إلى أن قرَّرت شراء كيلوغرام واحدٍ من البندورة. قالت في نفسها: سأعدُّ اليوم أكلة “جظ مظ”، فلديَّ بضعُ بيضاتٍ ، والبندورة الصيفيّة لذيذة، وهذا الطبق السوري الشعبيُّ لا يشكو من شيء، نعم.. لمَ لا؟ طلبت من البائع أن يزنَ لها ما جمعته من حبّات البندورة الناضجةِ وسألته عن السعر فكان خمسمئة ليرة. فتحت حقيبتَها لتأخذَ منها النقود فإذا بعينيها تجحظان وشفتاها ترتجفان. ظنَّ البائعُ على الفور -كما بات يشاهدُ كثيراً في هذه الأيام- ، أنّها لا تملك نقوداً، وأنّها تقوم بتمثيلية ضياعِ أو سرقة المال من محفظتها، فقال لها وهو يحوقل: اذهبي يا أختي، خذي البندورة، الله يسامحك دنيا وآخرة. قالت له بوجه عابس: ماذا تقول؟ لا أريد منك صدقة، واستلّت من الحقيبة ورقةَ نقد من فئة الخمسمئة ليرة ورمتها له.
عادت إلى المنزل مسرعةً فقلبت محفظتَها رأساً على عقب فور دخولها، ليقعَ منها رزمةُ مال مربوطةٌ بلفافةٍ مطاطية، فعدَّتها فوجدَتها خمسة آلاف ليرة. ظنّت هناء أن لينا قد دسّتِ المبلغ لها في الحقيبة لقاءَ مساعدتها في بعض مسائلِ الثانويّة العامّة وخاصة بعد أن عرفت ضيقَ ذات اليد أثناء نقاشِها مع المتسوّل، لكنّ لينا نفَت ذلك بشدَّةٍ لدى سؤالِ هناء لها على الهاتف! فكّرت مليّاً بما جرى مسترجعةً الأحداثَ لحظةً بلحظة لتتذكرَ أنّ آخرَ مَن لمسَ حقيبتَها هو ذلك المتسوّل.
في صباح اليوم التالي هُرعت إلى الحديقة تبحثُ عنه إلّا أنّها لم تجده، أعادتِ البحث عنه يوماً بعد يوم وسألت مُرتادي الحديقة فقالوا إنّه مختفٍ منذ مدّة. إلى أن أتت تلك اللحظةُ التي لمحَته فيها عند مدخل جادة فرعيّةٍ لشارعٍ رئيسٍ وحيويٍّ في المدينة، فأسرعت باتّجاهه لتسألَه عما يؤرقُها من تساؤلات. اقتربَت نحوه لاهثةً، وسألته عن سرِّ الخمسة آلاف ليرةٍ، ضحك المتسوّل قائلاً: قفي إلى جانبي اليومَ وستعرفين السرَّ.. نحن بعضُنا لبعض. صمتَت لثوانٍ، ثمَّ أخرجتِ المالَ من حقيبتها، ودسّته على عجلٍ في جيبه، ومضَت بعينين دامعتين لا تلوي على شيء.
.

*كاتب وقاص.. وزير التعليم العالي السابق- سوريا

http://تابعونا على فيس بوك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى