أن تكون أنا!؟ .. د. نهلة عيسى

أنا لست بوهيمية, والألم عندي ليس هواية, ولا مكياجاً مسرحياً أمثل به دور الضحية, فأنا رغم كل الوجع ما زلت أشتعل جنوناً ورفضاً وغضباً وحلماً, لكن ألمي الفائض عن الحاجة, والرافض ابتلاع الأقراص المنومة, كان نتيجة محتومة لسنوات اعتقلتني فيها الحرب وأجبرتني على التفتيش الدائم عن حقيقةٍ ما, يقينٍ ما, منارةٍ ما, أتمسك بها خشبة خلاص من بشاعة وكآبة وعبثية الأشياء حولنا, والعيش أرملةً للفرح, لأنتشر حزناً شاسعاً على مساحة الوطن.
أنا لست بوهيمية, والحرب التي تعتقلني أنهت زمن الطقوس, الياسمين, والموسيقى, والكتاب, والليل, وذاك التوق الغامض إلى أول فراشة طاردها القلب, وأول نجمة ناجتها العين, وأول أمنية احترقت, والحلم الذي أخاف أن يتحقق, لأنني أريده أن يظل حلماً كي لا أفقده ويستحيل خيبة, ولذلك والأصفاد في يدي رسمت لنفسي يقيناً, يتيح للحب أن يستمر بالتدفق مني, لأنني سأموت إن توفقت عن الحب, وهذا ما تريده الحرب, ولم يكن ممكناً أن أسمح للحرب أن تريد ما لا أريد.
وقررت أن أرتدي يقيني قميصاً مضاداً للرصاص, وغضبي مانعاً للخوف, وأن أربط الصبر على طرف قلمي ولساني وخطواتي, لتنهض حروفي وكلماتي وأقدامي من عرجها, ولتركض على السطور والطرق متحاملةً على الوجع, ومتجاوزة كل قدرة على اللحاق بها, لترسم على بياض الورق وبياض القلوب, اسماً جليلاً, مهيباً, منيعاً على زبانية هولاكو وجنكيزخان, ومحاكم التفتيش, وعصياً على الهزيمة: السوريون.
وكان يقيني هو من حطم الأصفاد، وأتاح لي الهرب من قبضة الحرب وأنا في الخط الأول للحرب, لأنه كان الرد على زواريب الطائفية وأزقة المذهبية التي حاول القتلة اقتيادنا إليها, وكان الشمس الذي أكدت لي أن سلاح جيشنا جواب لقسم بحماية الوطن في البر والبحر والجو والرب شهيد, واستجابة لنداء راية النجمتين, وترديداً لصدى صوت امرأة من ألف عام نادت, فرددت الجبال الصدى بعد ألف عام, واستجاب له الرجال!.
لست بوهيمية, لكن يقيني أصبح مقصدَ مشاوير فخري لرد أقل القليل من الجميل لبشر يحتملون الموت, كي يخرج الموت من بلادنا, وأصبحت تلك المشاوير أغنيتي الفيروزية في صباح يتوسل الدفء من القلب, وأصبحت الضوء الذي يغسل عن العين رماد الخيبات, ويغلفها بحرير الأمل, ويدفعني حين ألتقيه لنسيان الحرب, ولانتظار موعد مع الفرح قريب, للحديث عن النجوم والأزهار, وعن الأطفال, وعن شابة صغيرة كنتها, عادت للوطن لتعمر الوطن, فتهدم أمامها الوطن!!.
لست بوهيمية, لكن يقيني جعلني بنتَ وأختَ وأمَّ وصديقةَ كل الناس, الذين لم يعودوا أصدقاء أحد, رغم أن صيرهم دليلٌ على أنهم أصدقاء كل أحدٍ فينا, والذين لن يقرأ أحدٌ منا قصة حياتهم القصيرة الجليلة, رغم أنهم ميزان الوطن, والبداهة النقية وسط غابةٍ من كلمات متقاطعة مسمومة, بات فيها فعل ” أعارض” وبراءة الأطفال في العينين, مرادفٌ لفعل ” أذبح, أنهب, أبيع”!!.
لست بوهيمية, لكن يقيني صَيَّرني رفيقةَ السوريين في كل الجبهات, هؤلاء الذين رغم كل العَناء, ومقارعة الموت كل لحظة, هم بشاشةُ وجه الوطن الذي يضحك من عتم الليل, وألفةٌ تصطاد النحل والضباع الشرسة, والحصار والانتظار!؟.
لست بوهيمية, لكنني أستمد الفرح من الناس الذين باتوا موسوعةَ البلاد: أسماء النبات, أسماء الأنهار, الأشجار, وعنوان كل حجر, ومواضع جذور الصبَّار, وحدود البحار, وحيث الوجع لصيقُ الضحك, والانتظار الطويل المُمِض بِشارةٌ متوهمةٌ بالفرج, وحيث لا أحد يَمَن بالصبر على الوطن, وحيث هؤلاء الناس أنا.
إقرأ أيضاً .. الظلال !؟ ..
إقرأ أيضاً .. باقون !؟ ..
*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب