ميتافيرس العالم الافتراضي ..ترجمة حيّان الغربي ..

يشرح ماثيو بول في كتابه الموسوم: “ذا ميتافيرس- العالم الافتراضي” الصادر حديثاً عن دار ليفرايت عن أصول هذه الفكرة، فضلاً عن المسار الذي قد تتخذه مستقبلاً.
من منّا يذكر مفهوم “طريق المعلومات السريع- Information Superhighway” الذي انتشر في الوسط الفكري والثقافي مطلع تسعينيات القرن المنصرم؟ حينها توقع المفكّرون أن شبكات البيانات عالية السرعة سرعان ما ستربط بين ملايين الأشخاص في شتى أرجاء العالم لتتيح لهم الفرصة لتبادل المعلومات وتوفّر لهم الروابط إلى “الأفلام والعروض التلفزيونية، وخدمات التسوّق، والبريد الالكتروني، علاوةً على مجموعاتٍ ضخمةٍ من البيانات” على حدّ تعبير “نيويورك تايمز”. ومع ذلك، يستخدم الملايين من البشر اليوم نيتفليكس وأمازون وجي ميل وويكبيديا، بيد أن أحداً لا ولم يتحدث عن “التجوال في طرق المعلومات السريعة”.
لربما ما يحدث اليوم مع مصطلح “ميتافيرس (العالم الافتراضي)- metaverse” هو أمرٌ مماثل، فقد أضحى هذا المفهوم موضوعاً دسماً للتأملات والتكهّنات التي تحوم هذه المرّة حول الممكنات التي تنطوي عليها العوالم الافتراضية ثلاثية الأبعاد إلى جانب المعنى الذي ترتكز إليه تكنولوجيا ألعاب الفيديو والاتصالات عبر الإنترنت على نحوٍ مثيرٍ للاهتمام. غير أن تعريف الاصطلاح ينطوي عل مواربةٍ كبيرةٍ، فضلاً عن أنه غير متداول على الإطلاق على ألسنة الجحافل البشرية المنضوية تحت لواء العوالم الافتراضية اليوم، مثل مستخدمي لعبة “فورتنايت”.
وقد عرف هذ الاصطلاح طريقه إلى التداول الواسع في أوساط الجمهور خلال شهر أكتوبر من العام 2021، حين غيرت شركة فيسبوك اسمها إلى ميتا- Meta على نحوٍ يشير إلى طموحاتها في هذا المضمار الجديد. غير أن الأشخاص الذين لم يسبق أن سمعوا بالكلمة (ميتافيرس) من قبل افترضوا أنه أحد منتجات فيسبوك الجديدة على الرغم من أنها ما زالت تستخدم في الدوائر التكنولوجية لسنوات طويلة فضلاً عن أن شركات أخرى، بما في ذلك مايكروسوفت وروبلوكس، قد نسبت لنفسها ميزة الإتجار بميتافيرس.
يعتبر “ميتافيرس” اسماً جديداً نسبياً لفكرة قديمة وفقاً لما يبيّنه المؤلّف في المسح الذي أجراه حول الموضوع، علماً بأنه محللٌ تكنولوجي يسهم بمقالاته في هذه المجلة بين الفينة والأخرى. وقد صكّ هذا الاصطلاح في العام 1992 من قبل نيل ستيفنسن في روايته “تكسّر الثلج- Snow Crash”. يتعقّب المؤلف مفهوم الواقع الموازي المفترض حتى قصة ستانلي وينباوم القصيرة: “نظارات بجماليون” الصادرة عام 1935، وقصص أخرى من تأليف راي برادبري، وفيليب كيه. ديك، وإسحق عظيموف، ووليم جيبسون.
لعله من المثير للدهشة أن جميع العوالم الافتراضية للكتّاب المذكورين تندرج ضمن خانة الواقع المرير، وهو التفصيل الذي فات مالكي الشركات التكنولوجية المعاصرة، أو لربما تعمدّوا تجاهله. ولا شكّ أن الموجز الذي يقدّمه بول لتاريخ العوالم الافتراضية، على الصعيدين الأدبي والعلمي، يوفّر سياقاً مساعداً، لكن ربما يثبت أن الإسهام الأعلى قيمةً لكتابه هو تعريفه لمصطلح “metaverse”: شبكة بينية من العوالم الافتراضية ثلاثية الأبعاد التي يمكن لملايين المستخدمين الولوج إليها بشكلٍ متزامن وممارسة حقوق الملكية بشأن البنود والممتلكات الافتراضية.
إنه لتعريفٌ مشوّق لما يغفله بقدر ما هو مشوّق لما يندرج ضمنه، فليس بمقدورنا القول ببساطة بأنه مجرد تغيير للتعريف التجاري للواقع الافتراضي: فجهاز الرأس اختياري كما يتم الولوج إلى العوالم الافتراضية اليوم باستخدام الشاشات المسطّحة على الغالب. فلا يتم ذكر تكنولوجيا بلوك تشين أو الرموز غير القابلة للاستبدال على الرغم من أن بول يقرّ بأنه قد يكون لها دورٌ تلعبه، وهو يصرّ على أنه كما أن الإنترنت واحدٌ فقط مكوّن من العديد من الشبكات والخدمات المختلفة التي تتمتع بالمزيد من القيمة الجديرة بالتوصيل، يجب أن يكون العالم الافتراضي- metaverse واحداً فقط مكوّناً من العديد من العوالم الافتراضية- virtual worlds. نظراً لأن العوالم الافتراضية موجودة بالفعل، فإن الخطوات المقبلة ستتمثّل في زيادة عددها بحيث تستوعب المزيد من المستخدمين (تحد الألعاب عبر الإنترنت من أعدداهم بحرص)، وإضفاء المزيد من الواقعية وقابلية الوصول عليها وابتكار أجهزة جديدة تتيح المجال للمزيد من الانخراط والانغماس في هذه العوالم.
يسير التقدّم على قدمٍ وساق على هذه الصعد كافةً، ولكن التحدّي الأكبر بما لا يقاس يتمثّل في إقامة الصلات بين هذه العوالم المنفصلة عن بعضها البعض في الوقت الراهن. على سبيل المثال، من المتعذر حالياً نقل قطعة ملابس افتراضية من فورتنايت إلى ماينكرافت. يبدي بول تفاؤله بأن “الجاذبية الاقتصادية” سوف تدفع الشركات إلى التعاون على ابتكار وتبنّي معايير منفتحة لأن السوق الذي ستطلق هذه المعايير العنان له سيفوق حجمه كثيراً حجم السوق الذي تتمتع به أي من هذه العوالم وحدها اليوم.
ويستشهد بول بما يسمى بحروب البروتوكول التي اندلعت خلال الفترة الممتدة ما بين سبعينيات وتسعينيات القرن العشرين حين تنازعت معايير شبكات الكمبيوتر المتنافسة فيما بينها على السيادة. وفي نهاية المطاف، ما ساد هو معيار منفتح، أي بروتوكول الإنترنت، فقد أدّى التنسيق- format العام إلى زيادة حجم السوق. وعلى نحوٍ مماثل، يسوق بول الحجة بأن لمشاركة البيانات والتشغيل البيني فيما بين العوالم الافتراضية جدوىً اقتصاديةً أكبر.
ففي الوقت الراهن، يشتري الناس أشياء أقل في الألعاب والعوالم الافتراضية الأخرى مما قد يشتروه لو كانت حقوق الملكية أكثر حصانةً ولو كانت البنود التي يتم شراؤها أكثر قابليةً للنقل. وبالتالي، تكفي معالجة هذه المشكلات لإقناع المزيد من الناس بالشراء. ستؤدّي العوامل الاقتصادية “إلى دفع عجلة تحديد المعايير والتشغيل البيني مع الزمن” على حدّ تعبير بول.
يعقد بول مقارنةً كاشفة مع تاريخ الهواتف الذكية، ويشير إلى طريقة أخرى للنظر إلى العالم الافتراضي- metaverse بوصفه الوريث الشرعي لموجة الإنترنت عبر الجوال. أسهمت الهواتف الجوالة في توسعة طريقة تعامل الناس مع الإنترنت، ولكنها غيّرتها أيضاً، مع إدخال أشياء مثل تطبيقات الملاحة وتطبيق تاكسي الأجرة- ركوب الخيل.
ويمكن للعالم الافتراضي أن يشكّل نوعاً موازياً من التحول، أو تحويل ما يمكن للإنترنت أن يفعله وكيفية استخدامه. ولكن ألا يخضع قطاع الهواتف الذكية للاحتكار المزدوج من قبل شركتي آبل وغوغل؟ لعلها الحالة التي لم تفضِ فيها “الجاذبية الاقتصادية” إلى قابلية التشغيل البيني. يعتقد بول أنه ثمة حاجة للإجراءات التنظيمية لتخفيف القبضة المزدوجة المحكمة على أنظمة الدفع ومخازن التطبيقات مما “لا يحدّ من إمكانات نمو منصّات العالم الافتراضي وحسب، وإنما الإنترنت على وجه العموم أيضاً”.
يتخذ المؤلف موقفاً حكيماً إذ يبتعد عن تمضية الكثير من الوقت في محاولة تخيّل جميع الاستخدامات المستقبلية للعالم الافتراضي- metaverse أو تحليل المواقف الحالية لعمالقة التكنولوجية من حيث أفضلية القدرة على استغلال هذه المجال، فضلاً عن أنه لا يغوص عميقاً جداً في التحدّيات الرسمية وتحدّيات الحوكمة الحتمية، فما زال الوقت مبكراً جداً على ذلك. فلنتأمل تلك التوقّعات من العام 1993، لعلّها أصابت بشكلٍ كبير، ولكن نيتفليكس وأمازون، وجي ميل، وويكيبيديا جميعها لم تكن موجودةً حينها.
علاوةً على ذلك، أطاحت نهضة الهواتف الذكية بكبار قادة القطاع السابقين أيضاً. وبالتالي، قد يؤدي العالم الافتراضي- metaverse إلى تغيير مماثل في الوقت الراهن. زد على ذلك، يقرّ بول بأن مصطلح ميتافيرس- metaverse نفسه قد لا يصمد في وجه الزمن، فقد يحدث ما نتحدّث عنه بحلول نهاية العقد الراهن ولكننا “في نهاية المطاف، قد نستخدم مصطلحاً مختلفاً للتعبير عنه”. وكما هو الحال مع مصطلح طريق المعلومات السريع- information superhighway، يبدو أن مصطلح ميتافيرس- metaverse الرائج بشدّة حالياً يمضي في الاتجاه الصحيح، بيد أنه قد يضيع على الطريق. يشرّع بول، بأفكاره الواضحة والعصرية، الباب أمام أي شخص قد يرغب بفهم العملية والعناصر التي تقوم عليها للدخول إلى عالمٍ جديد.
*ذي اكونومست- الصفحة الثقافية ..
*شاعر ومترجم- سوريا
.
لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews