مكانك تحمدي أو تستريحي!؟ .. د. نهلة عيسى

تبدو زحمة رمضان في بلادي هذا العام, أقرب للآلية, وبحكم التعود, أكثر منها للنشاط الحق أو للبهجة, ما يعني حركة بلا بركة, شبيهة تماماً, أو ربما انعكاس صادق لواقعنا السياسي والاقتصادي والمعيشي, الذي يراوح منذ سنوات في مكانه, رغم كثرة الضجيج والثرثرة عن موعد الاقلاع, وقرب الوصول, رغم معرفتنا جميعاً, أن “غودو المُنتَظَر” ربما قد يصل, قبل أن نصل!؟.
وهذا الحكم لا علاقة له بالتشاؤم أو فقدان اليقين, بقدر ماله علاقة بوقائع موضوعية نعايشها جميعاً, أهمها: أن أمسنا السقيم مقيم لا يغادر بلادنا, يجتر فوقنا الأمراض التاريخية لمقاولي وتجار الشعارات الوطنية, والتنظير البائس لمن خانوا, مطلياً بألوان علم غابر من أعلامنا الوطنية, والذين يتبارون مع باقي أشباههم في البلاد, في عنف مذل بارد غير مرئي على تخاطف أشلاء صبرنا, وخطف إراداتنا, لنتحول الى قطيع مسالم يدفع عن القبضايات ثمن الكهرباء التي يسرقونها, والأغذية والأدوية الفاسدة التي يبيعونها, وأجرة التكسي أو الميكرو التي يفرضونها, والأرصفة التي ندفع نحن (المساكين المنضبطين) ضرائبها ورسومها, وتحتلها سياراتهم ودراجاتهم أو بسطاتهم أو أكشاكهم, أو ورشات بنائهم غير المرخصة, إضافةً إلى الرشاوى التي يطلبونها تحت مسميات عديدة, بداية بإصلاح الهاتف وليس نهاية برفع القمامة من الطريق, رغم أن شوارعنا أنستنا الفارق بين الحديقة والمزبلة, وبين العبوة الناسفة والصراخ, وبين البارود والحبر!؟.
ليتحول عابرو الأهمية أمثالي, والذين يراهم صانعو الخراب عقبات تسد السبيل, إلى أصوات مازوشية في جوقة ترمي على كتف الصدفة أو القضاء والقدر, بالمسؤولية عن كل الجرائم التي تطالنا, وكأنها عقاب إلهي مستحق, ويتوقف الجري خلف الأجوبة عن أسئلة صحيحة مزمنة, كالمشنوق يحتمي بمشنقته, ويتقي بها ساطور الجلاد, ويجد في الشنق أهون الشرين, ليقينه أن الصمت على القبح مساهمة في تنشيط نسله وتناسله, والحياد أمام الفساد هو الوجه الثاني للموت اليومي المفروض, وتستر على النتيجة خوفاً من مناقشة السبب!.
والمضحك المبكي, أن صناع بؤسنا يفسرون قصاصنا على صدقنا, بأنه مجرد استفسار, ويبررون موتنا العبثي بأنه أمن وقائي, وجوعنا صمود, ونشيج سيارة اسعاف تقل مفلوجاً, ونُوّاح أخرى تقل منتحراً, على أنه طبيعة الأشياء, والمزاد علني ومفتوح, والمرتزقة في الداخل والخارج كثر, والوسطاء ممتنعون, خاصة أن رفع الأقنعة ومسح المكياج عن وجوه من يحاربون الوطن في قلبه, ويسرقون الأمل من قلوبنا, واللقمة من أيدينا, والأغنية من حناجرنا, والعفوية من انتمائنا إليه, ويسعون لتغريبنا عنه يوماً بعد يوم, لدرجة الاحساس أننا عراة وسط حشد من العيون الكارهة الشامتة, بات ينظر إليه باعتباره خيانة وطنية!!.
لأنه على حد زعمهم, ليس بالإمكان أفضل مما كان, ولذلك علينا الرضا بالعيش تحت رحمة النهابين والكذابين وبائعي الوطن بالكيلوغرام, لأن الزمان ليس الزمان, ولأن القادم العزيز المنال فوق مستوى فهمنا, وفوق كل فوق من صبرنا, وأهم بكثير مما نعانيه, بل أهم من عيشنا أو موتنا!؟.
ولكن, ولأننا نعرف أنهم مثلنا منتظرون, ومثلنا لا يعرفون عن قادم الأيام شيئاً, نداري وقاحتهم بالتطنيش, وادعاء الانشغال, رغم أننا في واقع الحال “مكانك تحمدي أو تستريحي”, لكننا بداهة نعرف أنهم يكذبون, لأن الوطنية لا تعني ستر “السما بالعمى”, فالوطن ليس خطاباً, ولا تربية عصافير وتنسيق ورود في برامج الصباح, ولا رحلة لرش الموت بالسكر, على ضفاف بحيرات الوهم, وتقزيم الخصوم و تعليق مشانقهم لفظياً على شاشات التلفزة الوطنية, بحجة رفع المعنويات وتحفيز الأمل, والحقيقة لا أمل إلا إن تطهرت أسماعنا من هرائهم, لأنهم ببساطة: كما أسلفت, مثلنا لا يعرفون, ولكنهم على العكس منا, يكذبون!!
إقرأ أيضاً .. ما يجب أن يكون الحلقة المقبلة!؟ ..
إقرأ أيضاً .. طعميني وبالبحر ارميني!! ..
*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب