إضاءاتالعناوين الرئيسية

مظفّر النوّاب: خارج الشطرنج والرحيل في الزمن المختلف .. أحمد علي هلال

|| Midline-news || – الوسط …

 

 

هو رجل بلا وقت ولحظته هي لحظة الشعر، كما قال ذات مرة عن نفسه، وما كان مظفر النواب، ذو السيرة الملونة بالشجن وبالفرح، وبدرب الآلام، سوى الوقت الحارس لجنيات الشعر وأغنياته، وإن شئنا بخمرياته وغزلياته وملاحمه، أنى وقفت به -الجغرافيا- طاردة أو نابذة، أو مستقبلة، وأنى وقف به الشعر ليبثه أشبه بالبلاغ أو البيان بطاقته التحريضية القصوى، ربما كانت ذروته -على الأرجح- فيما قاله في القدس عروس العروبة التي تتعرض لما تتعرض له من مآسٍ وبأبعاد مختلفة.

فأينما تقف به الجغرافيا فإنه يكون جغرافيا قوله الشعري، ويصبح لخطابه تلك الأقانيم المشتهاة، وهو الأكثر إدراكاً، بحكم عضوية ثقافته وصلابة انتمائها وتماسكها البنيوي، وعيه بالشكل جوهراً، وبالجوهر آلية تأسيسية لفهم معنى الحداثة، ومعنى المعاصرة، أي بقدرة الشاعر على الإحاطة الشاملة بثقافة عصره والتفاعل الواعي بتراثه.

مظفر النواب نسيج ثقافة متعددة ومختلفة انفتحت عليها تجاربه ليعيشها، ويكون جزءاً من صورتها ومكوناتها، صورة لعصر قلق جعله يتوسل الشعر جسراً لمباهجه ولتصبح حياته بحلها وترحالها، وتعدد أمكنتها من بغداد إلى بيروت فدمشق فبيروت، خلاصة أثيرة لمكابداته الوجودية، تتلامح فيه النزوعات الميتافيزيقية والصوفية، بما يضايفها من تعالقات سوريالية مدهشة، ثمة شحنات وأشجان وذكريات فسيحة تقاربها ذات الشاعر، ولعلنا نجد مثال ذلك في (وترياته) الليلية.

هو إذاً خارج (الشطرنج) الضيق للقراء والنقاد، كما يؤكد هو ذلك، وعليه فإن (الصراع) هو قضية شعرية كبيرة، ولعلنا هنا ندرك سراً قلَّما باح به: الحياة التي تنوس ما بين الألم الممض والفرح المستبد، وكيف تصبح وعياً بتجارب شعرية متواترة.

وحينما يستمع جمهور دمشق لقصائده، بل شعرية الاقتحام التي وسمتها لإيقاعها الصاخب ومشاكستها للسائد والمستقر، وبانزياحات ألوانها، ومثاله الباهر ملاحم الإغريق، التي تكتنف اللون الأحمر خلفية لها.

ولعلك تعلم -أيها الرائي- وأنت في عاصمة أخرى (بيروت) وقد شهدت منذ مطلع شبابك سجالاتها الغنية، المحكومة بجدليات الفكر والأدب، والمثقف والمكان، بيروت مادة هائلة للكتابة وللدخول في عالم جديد، لتكتب عن متغيرها النوعي -المقاومة- المقاومة الوطنية في الجنوب والبقاع الغربي، كما الانتفاضة الفلسطينية، إذ ليس غريباً أن ترد بكثرة أسماء القرى والناس، ولعلك رأيت في ذلك غنى ملحمياً، ألم تكتب بوحي من تلك البطولات قصيدة كان اسمها (بنفسجة في دمي من هواهم).

أما زالت روحك على كفّك وبيروت -هذه المرة- هي من سكنتك كما دمشق؟ أما زالت قصائدك المؤجلة بفعل أوجاع فاضت على النص، قادرة على طرح هذياناتها المضرجة بالتمرد؟

أخمن أن بيروت قد جذبتك هذه المرة لمشروع قصيدة ستحيا بعدك، وقد كتبتها على نوافذ بيروت وحواريها وشوارعها ومقاهيها.. لأزمنة أخرى سيقرؤها من اخترتهم ليكونوا أصدقاءك، الصيادون والفلاحون وبائعو الشاي في الأزقة الضيقة، والسنكري وبائع العرق سوس وبائع (كل غرض بليرة)، فهل تذكر تلك الخواطر التي أطلقتها من إذاعة دمشق وضمنتها رثاء لموت السنكري.

لقد رأيت أولئك مثقفين من طراز خاص، هكذا يمكن لقارئ أن يعيد تأويل قصيدتيك (المحمداوي، الريّل وحمد)، وقوفاً على سيل مديد من الجمر الغافي وعواصف الزنابق التي تجري بدجلة وتهمي فوح فرات، ولتعاند ولو قليلاً رواغ المسافات والأزمنة، لتصنع جدارية الأمل..

ويبقى سؤالك كمرآة تقترح على رائيها وجهه: (متى سيستيقظ الوطن العربي، ومتى سيعود كوب الشاي بخس الثمن كما كان)؟

فكيف لنا إذاً أن نصدق (موتك) الذي تتخاطفه الألسن، لكنها ليست لك، لأن أمثالك يولدون فحسب هناك على أرصفة التيه، ويبثون نشيجهم بل أنينهم الناحل في الفضاءات الطليقة لتكون أنت القصيدة التي لا تموت، بل تتحول إلى مقامات من الوجد تحملها العواصم من زمن إلى زمن، وتشي بها للريح كي تود كما الغناء الشجي الذي لا يحمل الورد إلا للأحياء.

في مرايا الفقد تعبر الأصوات والأسماء والأرواح، إلى أبدية أخرى لعل قدر المبدع أن يسرع إلى حياة جديدة وقد شبه له بأن ما عاشه لم يكن سوى تمارين على الحياة، عبر النصوص وعبر المعيش، وعبر التطير من التفاصيل اليومية… كم أثخن جسدك المرض أيها –النواف- لكنك لم تنحنِ كما صوتك تماماً الذي  مازال يتردد في برهات القصيدة ومسافاتها المترعة بالألم الخفي وبالفرح القليل… ذات يوم في اللاذقية لم أستطع إكمال حواري معك، كان الصمت بيننا صوتاً آخر لحضورك، وكان عليَّ أن أتلو هذا الحضور أمام مرايا النقد، وليس الفقد/ المفردة الرجيمة التي تعصف بحيواتنا، ظلت اللغة وطنك الثاني، لكن العراق القريب جداً مازلت تحمله وطناً في القلب والعينين والكلمات.

 

*كاتب وناقد- سورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى