رأي

تكساس: “إياك والتعدّي”.. بشار جرار – واشنطن ..

 

رحم الله شهداء مجزرة تكساس. ولكونهم جميعاً من أخوتي المسيحيين أقول: مع الملائكة والقديسين والأبرار. أخص بالدعاء ذلك الزوج الذي فطر الحزن قلبه على زوجته فلحق بها لا برصاصة، ولكن بأزمة قلبية أردته شهيداً بعد يومين، مخلفاً أربعة أيتام.

وإمعانا في استفزاز الضمير إن كان له من بقايا في عالم سقطت في الأخلاق وفسدت فيه الأذواق، أصلي لأم القاتل سلفادور الذي لا يعرف والداً من حيث النسب البيولوجي. وأصلي لأمها، جدته التي غدرها القاتل ابن الثمانية عشر عاما بطلقة في وجهها مازالت بأعجوبة على قيد الحياة جراءها حتى كتابة هذه السطور.

سقت هتين الفقرتين كمقدمة على ما هو أهم وأسمى من الإدانة، من نحن حتى ندين وجميعنا لنا ديّان واحد سبحانه خالق كل شيء بمحبة لا بغضب، وضابط الكل بحكمة ومحبة ورحمة لا بمعاييرنا المحدودة وأحيانا المغلوطة.

أما بعد، فالقاتل لم يكن السلاح، بل المجرم وهو ضحية، ضحية تفكك أسري وتنمّر مدرسيّ وعزلة مجتمعية. والمجرم والجريمة بكل أركانها مازالت موضع تناقض وتشويش وتوظيف لا تخلو منه شبهات سياسية تتعلق بالانهيارات المتلاحقة لشعبية جو بايدن وحزبه الديموقراطي لا بل والكونغرس برمته كمؤسسة. من كورونا إلى أوكرانيا ثمة فيض من قضايا الفشل بعضها مزمن يدلل على خلل أكبر من تلك الملفات والأحداث مجتمعة.

مما تسرب أو انكشف بعد أقل من ثمان وأربعين ساعة على المجزرة التي راح ضحيتها تسعة عشر طفلاً (الصف الرابع الابتدائي) ومعلمتان في عمر الورود أيضا، أربع كوارث في غاية الخطورة: المجرم اعتقل قبل أربع سنوات لتهديده بإطلاق نار في مدرسة. المجرم أعلن مسبقا عبر فيسبوك عن نيته قتل جدته ومن ثم تحديده نيته التوجه إلى المدرسة الابتدائية في تلك البلدة الحدودية الصغيرة مع الحدود المكسيكية الأمريكية المستباحة.. المجرم دخل المدرسة عبر باب غير موصد رغم اتخاذ المدرسة وضعية الاستنفار الأمني (الإغلاق التام) على أثر تنبيه من الشرطة. وأخيرا، وخلافا لما تم إعلانه، أمضى المجرم أكثر من ساعة حتى دخل عنصر واحد من الشرطة واشتبك معه وأرداه قتيلا رغم وصول الدفعة الأولى من مجاميع وتعزيزات الشرطة بعد أربع دقائق إلى مسرح الجريمة.

وبعد كل هذا، ثمة من يصر على تجاهل العلة والمرض والانشغال بالأعراض كيفما أرادت السردية الطاغية في الصحافة “الحرة والنزيهة” تقديم رؤيتها الجاهزة والمقولبة للأحداث. وكل حسب فهمه للغة الإنجليزية وللثقافة الأمريكية ومدى حبه، أو كرهه لأمريكا، أو لحزب سياسي، أو جماعة ضغط فيها.

مجزرة تكساس كسابقاتها وكلاحقتها، مرتبطة بملفات أكثر تعقيدا أهمها هوية أمريكا وهي مسألة أهم من كون امتلاك السلاح هو التعديل الثاني في الدستور الأمريكي الذي وضعه الآباء المؤسسون. كعضو بالرابطة الوطنية للبنادق إن آر إيه، أراه بعد التعديل الأول الخاص بحرية التعبير هو سر المعجزة الأمريكية والتميز الأمريكي. المشكلة في تطوير وتفعيل القوانين وهي ليست كما تشوه في وسائل الإعلام وبخاصة العربية والناطقة بها. لولا السلاح لسهل اجتياح أمريكا من دول معادية أو جماعات إرهابية ولسهل أيضا تحولها إلى دكتاتورية ولم تكن غاية الآباء المؤسسين سوى الحفاظ على الجمهورية وليس كما يظن البعض فقط قيام ديموقراطية علمانية.

ليس أفضل من شعار “إياك والتعدي” “دونت تريد أون مي” توضيحا للقضية. رمز هذا الشعار هي أحد أكثر أنواع الأفاعي سمية وشراسة. فرداً على قيام بريطانيا الاستعمارية بترحيل المجرمين من أراضيها وأراضي مستعمراتها التقليدية إلى مستعمرتها الجديدة في ذلك الحين الساحل الشرقي لأمريكا، كانت ترسل على متن السفن حمولات من عتاة المجرمين والمرضى الميؤوس من شفائهم للتخلص منهم وأحيانا عقاباً للوطنيين الأمريكيين ولسكان أمريكا الأصليين. جاء الرد الأمريكي بإرسال أفاعي في الحمولة العائدة ومنها انبثق شعار تحذيري بعدم تكرار التعدي على الأمة الأمريكية. شعار ارتبط بالأمريكيين من الحزبين ومن جميع الأعراق والطبقات في تعبير عن التململ المتزايد من “التعدي” على المواطن وعلى الإنسان في المقام الأول. وهو شعار عادة ما يكون مقرونا بحمل السلاح واقتنائه. ولا أعني فقط السلاح الفردي، بل السلاح كذلك الذي تستخدمه الشرطة والجيش.

لا يعلم كثيرون أن الدستور الأمريكي يكفل حق تشكيل المليشيات أيضا. فالقضية كبيرة معقدة متأصلة بالهوية الوطنية الأمريكية.

لن أحول المقالة إلى دراسة ولا مرافعة بأرقام الإحصائيات التي تخضع هي الأخرى للتلاعب وفقا لآراء سياسية مسبقة، لكن جميع حوادث إطلاق النار من هذا الفعل المشين بدأت بأمراض روحية فنفسية فعقلية. مشكلات الشر والعنف والمخدرات بدأت كنتيجة تراكمية للحروب الخارجية – خاصة فيتنام أفغانستان والعراق – ومن قبلها الحروب الممنهجة على الدين وتراث أمريكا الروحي قبل الهجرات الواسعة من “العالم الثالث”. التراث الروحي والاجتماعي الأمريكي كان كتابيا “بيبليكال” بمعنى يهودي – مسيحي بغالبية مسيحية بروتستانتية وبالأخص معمدانية.

من أراد صادقا الشفاء عليه علاج العلة لا تسكين العوارض. لا خلاص إلا بالعودة إلى الله والأسرة..

*كاتب ومحلل سياسي – مدرب مع برنامج الدبلوماسية العامة في الخارجية الأميركية ..
المقال يعبر عن رأي الكاتب ..
عنوان الكاتب على basharjarrar : Twitter
 

صفحتنا على فيس بوك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى