كريزة كبتاغون .. غسان أديب المعلم

قرأت كثيراً في الأيام الماضية عن مفاعيل القوانين الأمريكيّة التي صدرت تجاه الدول التي تمّ تصنيفها أو تسميتها بـ”دولة مخدّرات”، وخصوصاً أن القانون الجديد اتخذ موضع الشرعيّة بـ”مجلس الغاب الأمريكي” الذي يشرّع كما يحلو له ضمن أهدافه طويلة الأمدّ، والتي غالباُ ماتكون النتائج بعكس ما تتضمّنه المواد من فقرات وبنود ترفع الشعارات الإنسانيّة المُنمّقة البرّاقة التي يصفّق لها البعض في البداية دون قراءة التاريخ أو حتى الاطّلاع عليه ولو من باب المطالعة كقصّة قصيرة دوّنت اختصار المواد برؤوس أقلامها، وحملت في طيّاتها تدمير البلاد برمّتها..
على العموم، أعتقد أنّ وسائل التواصل الاجتماعي قد أتخمت باستعراض القانون ومواده الستّة، وقد مرر البعض تجارب القانون مع دولٍ مثل بوليفيا والمكسيك وكولومبيا وأفغانستان وكذلك العراق وغيرها الكثير من البلدان، والتي دائماً كان العنوان الأبرز يستهدف نظام تلك البلدان بشكلٍ شخصيّ، وتقع فأس القانون برأس الشعب الذي لا حول ولا قوّة له في مثل هذه الأنظمة التي همّشت وسحقت معنى المواطنة، وافتقدت لنجاعة الحلول من هذا الإدمان لديمومة سيطرتها ودوام نهجها، ولم تتنازل ولو للحظة لاستشعار أهمّ نقطة توازن لأي بلد في هذا العالم، وهو المزاج والتوجّه الشعبيّ الذي تتحكّم فيه المواطنة بقيادة الدفّة.
تاريخيّاً، كانت بلادنا إلى نهاية حقبة التسعينات بلاد عبور للشحنات المتفرّقة التي كان مصدرها بلغاريا واليونان وتركيا، والتي أعادت بعض مصانعها إنتاج مادة “الإم فيتامين” التي اخترعها العلماء الألمان في بادئ الأمر، ودخلت في ذلك المجال حليفة ألمانيا اليابان، وتمّ استخدام هذه الأنواع من الحبوب التي تحمل المادة في الحروب العالميّة، وخصوصاُ أنها تمنح الجنود قدراً كبيراً من الطاقة ومحاربة النعاس، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهروب واعتقال العلماء الألمان في كافّة أصقاع الدنيا، إلّا أن بعض الناجين منهم الذين فرّوا إلى دول البلقان وبلغاريا قاموا مجّدداً بإعادة إنتاج المادّة وتهريبها لأسواقٍ يغلب على شبابها طابع الكبت والتهميش وصولاً للجهل، وكانت بلدان الخليج وأفريقيا مرتعاً لوصول الشحنات، وبالتأكيد كانت سوريا بلاد العبور الأساس، حتى بداية الألفية الثالثة وانتشار الحبوب بشكلٍ تدريجيّ ضمن فئة الشباب داخل البلاد، وخصوصاً في المناطق الوسطى المحاذية للبنان، والتي أصبحت بعض هذه المناطق موضع تصنيع للمادّة بعد خلطها بطريقة بدائية مع مادة “الهيروين” وكذلك “الزجاج” والتي اصبحتت تدرّ أرباحاً هائلة أكثر بكثير من تجارة الحشيش “الكيف” أو حتى مادّة “الكوكائين” التي كانت حكراً على الأغنياء فقط، وكانت تكلفتها عالية جداً من حيث الاستيراد والتصدير لسوق البيع، ولا أحد يستطيع إنكار مافعلته حبوب الهلوسة إبان الأزمة السوريّة من إدمان وتصرّفات وأفعال، ولا أحد أيضاً يستطيع إنكار حجم السوق الموجود حالياً بالفعل من حيث التصنيع والتسويق الداخلي والخارجي، فأخبار إلقاء القبض على شبكات تهريب المخدرات كثيرة جداً داخليّاً وخارجيّاً، والأهم أنّ جميع الأخبار الشرطيّة التي تذكر القبض على مطلوبين للعدالة بجرائم السرقة والسلب والتعدّي على حقوق الناس غالباً مايكون ضمن المصادرات من المجرمين حبوب الكبتاغون مع الأسلحة المتنوعة، وعليه يمكن لأي قارئ معرفة الخطر الكبير لهذه المادّة التي تمّ تحويلها من علاج إلى مشكلة، ومن وقاية إلى إدمان لا ينفع معه أيّ هروب سوى بـ”الإرادة” مع شرب اللبن والحليب لحين التغلّب على “الكريزة” التي تتسبّب مادة “الهيروين” بها وبمن أدمن على تعاطيها..
بالعودة إلى القانون الأمريكي الجديد الذي أعطى مهلة مئة وثمانين يوماً لتقديم “مقترحات علنيّة وسرّية” من لجان البنتاغون المختلفة بالشراكة مع وزارة الخارحيّة لتحديد السياسة التي ستتبعها أمريكا في مكافحة وتفكيك وتدمير شبكات الاتجار كما تقول في بيانها، ولأن ثقتي “معدومة” تماماً بأن هدف أمريكا هو تحسين واقع الشعب السوري، كما هي ثقتي “شبه المعدومة” بالسلطات في سوريا وليس بالشعب السوريّ، فإنني استشعرُ وبالاً ما في طريقه إلينا كالعادة مع كلّ قانونٍ أمريكيّ صادر، وكذلك ردّة فعل السلطات المتوقّعة.
فالقانون الأمريكي الساري حاليّاً هو قانون “قيصر” الذي سُنّ بناءً على تسريبات ومعلومات تخصّ تعذيب المعتقلين والناحية الإنسانيّة، وبعيداً عن صحّتها بالمجمل أو بالمطلق، والتي لا يمكن إغفال بعضها، لكن النتائج أو الاستهداف الحقيقيّ وقع على رأس الشعب السوري كوارث ومحن يَنِدُّ لها الحبين، كما الحال عند القانون الأمريكي الذي استهدف العراق تحت مُسمّى “النفط مقابل الغذاء” والذي كان أطفال العراق أول ضحاياه بسبب فقدان مادّة حليب الأطفال، وبذات الحال أيضاً وأقصد الحالة السياسة عطفاً على الحالة الاقتصادية المهترئة التي ارتكزت فيها قوى الفساد “بكلا البلدين” على مواد القانون الأمريكي بتعميق جراح الشعبين العراقي والسوريّ، وازدياد الشرخ الحاصل بين صفوف المجتمعات وبين من يُدير شؤون البلاد التي باتت ترزح تحت جحيم الغلاء والوباء، وأخذت القيم الاجتماعيّة بالتفكّك والانحلال، وبات الانهيار التام على شفى حفرة.
عند هذه الحفرة تماماً يجب أن ترتفع وتيرة الأقلام التي يحرّك مدادها حبّ الوطن أولاً وأخيراً..
ترتفع بإتجاه التنبيه والتحذير من العواقب الوخيمة التي تنتظر البلاد، بدلاً من التنظير بجمال أحذية السلطات وكتابة الأشعار بشسع نعالها الذي ترتجف أمامه كلّ الدول التي تزحف طلباً للرضا والصفح والعودة منحنية الرؤوس متقبّلةً لكافّة الشروط التي تضعها السلطات في سوريا!.
وبدلاً من تفويض الأقلام باتجاه سيناريوهات مشبوهة حول الحلول المُقترحة كذباً بالترويج من أنّ كلّ أحزاب تركيا ترفع راية الاستسلام مذعنةُ للشروط، أو أنّ الدول العربيّة من المحيط إلى الخليج تقف على قدمّ واحدة يعتليها الندم وتطلب الشفاعة، أو أن أمريكا تقف محشورةً في الزوايا بعد فشل مشاريعها مع كلّ أذرعها، وبأنّنا في الطريق الصحيح بغرفة التحكّم بأقدار الكون برمّته، يجب أن ترتفع الوتيرة بإتجاه الحلّ الذي لا مناص أو بدّ منه قبل طوفان الخراب والدمار المرتقب بأنّ استمرار النهج الخاطئ يودي للتهلكة، وأن الشعب على فوهة بركان ومنصّة تعذيب، وبدلاُ من انتقاد وقوفه بالطوابير لأجل الحصول على مادّة، عليه توجيه اللوم لمن منح احتكار المواد مخالفاً للدستور الورقيّ الذي نحترم رغم التحفّظ على بعض المواد، وعليه اجتراح الحلول بتقديم المشاريع الوطنيّة والدعوة لمناقشتها ضمن حوار وطنيّ صادق، يكون مكوّنه الأساس من السوريّين المُعذّبين المهمّشين دون إقصاء طرف على حساب الشخصيّات التي صنعتها السلطات للتمثيل.
غالباً كما أشرت سابقاً بأنّ القضاء أو التخلّص والتغلّب على “كريزة الإدمان” يكون بالإرادة مع الدواء، وجنون الواقع الحاليّ من وضع البلاد التي يرتفع فوق أراضيها عدّة أعلام وبيارق مختلفة تحت مسمّيات متنوّعة من أعداء وحلفاء وأصدقاء، البلاد التي تُنهب ثرواتها، أمام أعين مالكيها، من قوى الأعداء وقوى الظلام في الداخل، البلاد التي يعصف بها الغلاء، ويفتك بها الفقر، هذه البلاد تحتاج إرادةً من نوعٍ خاص ودواء وحيد، وهو الرجوع للشعب دون هوادة قبل أن تحتل أروقتنا “كريزة الكبتاغون” قانوناً وسياسات، ولا تنفع معها كلّ المصحّات بالعودة حتى سيل الدماء كما العراق، وكما عاد بعد الدماء من “تحت الدلف لتحت المزراب”.
وفي النهاية، كتبت كلمة أو مصطلح الثقة ووصفته داخليّاً بشبه المعدوم لأنني أمام قوانين أمريكا لا أملك مثقال ذرّة من ثقة، وبموضعي ضمن وطني يجب التمسّك ببارقة أمل مكابرةً، ولو كانت كذباً ورياء.
إقرأ أيضاً .. من الظلمات إلى النور ..
إقرأ أيضاً .. العطّارون ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب