إضاءاتالعناوين الرئيسية

كبل رباعي .. د. محمد عامر المارديني

…صحيفة الوسط – midline-news

.
عدتُ من ألمانيا بجعبة ممتلئةٍ بالذكرياتِ الجميلة، ومن بينها ذكرى حضوري لإحدى المبارياتِ الودّيّةِ المؤهِّلةِ لكأس العالم بكرة القدم في الملعب الأولمبي بمدينة برلين الغربية “الأولمبيا شتاديوم” عام 1986 بين منتخبي الأرجنتين والاتحاد السوفيتي.
فأن تشاهدَ الساحرَ مارادونا ومعه ثلةٌ من اللاعبين الرائعين مثل باسريلا وفالدانو في طرف منتخب الأرجنتين، وتلك الآلةَ البشريةَ اللاعب بلوخين وحارسَ المرمى الأشهرَ آنذاك داسييف ومعهما بيلانوف في طرف منتخب الاتحاد السوفيتي، وأن تقتربَ منهم وهم يدخلون الملعب، ثمّ تصافحَهم بعد انتهاء اللعبة، هي لَعَمري متعةُ المتع. يذهلك الأولمبيا شتاديوم وكواليسُه بإعجاز بنائَيه، وبالأناقة والترتيبِ والنظافة، حتى تكاد تشعرُ أنّك في متحفٍ لا ملعب، وقد تتمنّى أن تدخلَ إليه كلَّ يوم، لا بل أن تبقى فيه طولَ العمر لشدّة ما يأسرُك بروعته. أمّا مشاهدةُ الجماهير على المدرّجات والجلوسُ بينَهم فهي شأنٌ آخرُ ،حيث ترى ملاحةَ ألبستهم المخصّصةِ لهذه المناسبة، وطلاءَ وجوههم، وأشكالَ أقنعتِهم المشتقّةِ من ألوان ثيابِ أو رايةِ الفريق الذي يشجِّعون، وتسمعَ أهازيجَهم الرقيقةَ الجميلةَ وكأنّك في دارٍ للأوبرا.وتشاء الأقدارُ أن أعودَ إلى حضن الوطن الحنون في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ليسألَني صديقي العزيز أبو أمجد إن كانت لديّ رغبةٌ في حضور إحدى المباريات المفصليّة في دوري كرة القدم السوري على أحد ملاعب العاصمة، فقد جاءته بطاقتا دخول كهديّة. وباعتباري محبّاً لكرة القدم بشكل عام، ومشجِّعاً للنادي الذي أحب، فقد وافقتُ على الفور باعتبار أن المباراةَ ستكون حماسيّةً بالتأكيد لأنّ الفريقَ المنافس هو فريق الأهلي، وهكذا كان.

سألتني زوجتي ظهر يوم المباراة: إلى أين أنت ذاهب؟؟ قلت لها: سأتنسم أريج الأولمبياشتاديوم.. هل تذكرين؟ قالت: لم أفهم. قلت لها: سأحضر مع صديقي أبي أمجد مباراةَ كرةِ قدم في الملعب بين فريقي والفريق الأهلي، سأستعيدُ معها كلَّ الذّكريات الجميلة التي عشتُها في الأولمبياشتاديوم بين منتخبي الأرجنتين والاتحاد السوفيتي. قالت: مستحيل..أنت تمزح! أتقارنُ الملعبَين والفِرَقَ ببعضها ؟ إنّها لَعَمري قسمة ضيزى قلت: أنا أحبُّ كلَّ ما ينتمي إلى الوطن، وإنّ أصغرَ نادٍ في سورية هو عندي بكلِّ منتخبات العالم. قالت: فلتهنأ أيّها المحبُّ العاشق..الله معك.

كانَتِ المباراةُ في الساعة الثانيةِ ظهراً تحت شمسٍ حارقةٍ ظمأى، تخالُها ستشوي رؤوسَ المشجّعين ، لكنّ ذلك كان غيرَ ذي شأنٍ مهمٍّ نظراً للحماسةِ الجامحة عند مشجّعي الفريقَين لدخول الملعب. زحفتِ الجماهيرُ إلى الملعب كالتتار، كما نزلَ عديدُ أفواج المشجّعين من الحافلات حاملينَ الأعلامَ الحمراءَ ويصرخون أثناء مشيِهم أهلي ، أهلي ،(اسم فريقِهم المعشوق)، ثمّ اصطفوا زرافاتٍ ووحداناً لشراءِ البطاقات من خلال ثلاث كوّاتٍ فقط كانت منصوبةً على الرصيف بجانب باب الملعب، لكنّ الازدحامَ كان غيرَ مسبوقٍ لدرجةٍ أن البطاقاتِ نفدت بسرعة قياسية وبدأ بعض المتنفّعين يبيعون بطاقاتٍ بأسعار السوق السوداء المرتفعة مستغلين تهافتَ الجماهير على شراء التّذاكر. أما مئاتُ ، لا بل آلافُ مشجِّعي فريقي فقد اجتمعوا عند الأبواب الحديديّة للملعب، بعضهم فوق بعض، يحاولون الدخولَ بشتّى الوسائل، و أفرادٌ من الشرطةِ المدنية والعسكريّة تحاولُ ضبطَ الأمور معهم بكل لطف واحترام وأدب. إلا أن تلك الإجراءاتِ التنظيميّةَ لم تُثنِ البعض من الجمهور عن تسلّقِ الجدران كالعنكبوت أو “أبو بريص” أو حتى “بريص” نفسِه، أو التسلّلِ عبر الفتحاتِ المتاحة بين الأسياخ الحديديّة للسور كما تفعلُ السحالي والحيّات. أما في المنصّةِ فقد جلس مجموعة من المسؤولين والمعنيّين في الاتّحاد الرياضي والمحافظة، وبعض الشخصيّات المعروفة ،ومجموعة من اللاعبين القدامى وذوي “الواسطات”. جلس مشجّعو فريق الأهلي إلى يمين المنصة ، وجلسنا نحن مشجّعي فريقي إلى يسار المنصّة، وفي باقي مدرجّات الملعب المقابلة للمنصة. وما إن علا صوتُ الصافرة معلناً بدءَ المباراة، حتّى صدح الحاضرون بالأغاني والأهازيج على قرع الطّبول والدّفوف. دقائقُ قليلة ،ويصفّر الحكَمُ على خطأ متعمّد من لاعبِ فريقي على لاعب الأهلي، وهنا علت صرخات التذمُّر استنكاراً لقرار الحكم، ثم تابع البعض السبَّ والشتمَ بكلماتٍ سوقيّة نابية، أوقف الحكم المباراةَ منبِّهاً إداريَّ الفريق بأن يتواصلَ مع المشجعين لوقف السباب والشتائم،وهكذا كان.

استمرَّ هذا السيناريو المكهرَب طوال المباراة إلى أن استطاع فريقُ الأهلي تسجيلَ هدف قبل النهاية بنحو دقيقةٍ على انتهاء الوقت الأصليّ للمباراة، لتبدأ معها المعاركُ الطاحنة عن بُعد بين مشجّعي كلا الطرفين، حيث لم يتركوا واحدة من أمّهات وأخوات وزوجات لاعبي الفريقين أو الحكّام إلا وأمطروها وابلاً من لعناتهم ، وليبدأَ بعدها الرميُ من قِبل الطرفين بكلِّ ماتيسرَ حملُه ؛ حجارة، بندورة، بيض ليصبحَ الملعب ساحةَ هرج ومرج. طالب لاعبو فريقي الحكمَ بإلغاء الهدف بينما كان الأهلاويّون شامتين بقرب خسارة منافسِهم، وما زاد الأمرَ سوءاً قيامُ أحدِ اللاعبين الأهلاويين بتصرُّفٍ مشينٍ لمشجعي الفريق المنافس بإصبعه بعد ما شتموا أختَه الأمر الذي أثار غَضبَ جماهير النادي المحلي،ومقابلَ ذلك ردّت جماهير الأهلي بهتافاتٍ مضادةٍ ساخطة ليشتعلَ الملعب بمنافسات التايكواندو بين لاعبي الفريقين والحكّام واللاعبين الاحتياطيين والإداريين وجميعِ من وُجِدَ على أرض الملعب.

احتار الحكم ماذا يفعل، فقرّرَ أخيراً أن يصفرَ منهياً المباراة، ثم ركضَ بأقصى سرعته إلى المخرج يرافقه الحكمان المساعدان فجرى قصفُهم من قبل الجماهير مباشرةً بزجاجات المشروبات الغازية فأصيبَ أحدُ الحكمين المساعدين في رأسه بزجاجة كولا فقام بدوره بسبّ المشجعين بعدما رأى الدم يسيل على خدّيه مدراراً. في هذه اللحظة قفز العديد من المشجعين إلى أرض الملعب يلاحقون لاعبي فريق الأهلي الذين لعنوا الساعة التي سجّلوا فيها هدفَهم لكثرة ما نالوا من ضربٍ ورفس وركل. وأخيراً نزلتِ الشرطةُ تفرق بين الجماهير واللاعبين بالعصي والهراوات إلى أن تمّتِ السيطرةُ على المعركة. أما نحن الجالسين مع مشجعي النادي المحليّ فقد قرّرنا الفرارَ من ساحات الوغى، لكنّ بوابةَ الخروج الحديديّةَ أُغلقَت علينا لسببٍ نجهلُهُ ،ما جعلنا نصرخُ بأعلى أصواتنا أن يفتحوها وفجأةً سقطت بين أقدامنا قنبلةٌ دخانيةٌ من الأعلى ليبدأَ معها الهيجانُ والدماعُ والسعال والصراخُ دون أن نعرفَ السبب. أخيراً فُتحتِ البوابة من جانب واحدٍ بالكاد يستطيعُ الخروجَ منها شخصٌ بمفردِه، وعلى الباب وقفتِ الشرطةُ العسكرية تؤازرُها المدنية تنظِّمانِ خروجَ المشجِّعين واحداً تلوَ الآخر باستعمال الهراوات الخشبيّة أو الكبلات الرباعية.

في هذه الأثناء قبض صديقي أبو أمجد على ساعدي لحمايتي من أي ضربةٍ صاعقة مفاجئةٍ وكأنه قد شعر بأنه هو مَن ورَّطني بحضورِ هذه المباراة ،فحاول سحبي إلى إحدى المناطق الآمنة بعيداً من ازدحام الخارجين، لكنّ التدافعَ المخيفَ رفعني عالياً في الهواء إلى البوابة دون أن أستطيعَ ملامسةَ الأرض بقدميَّ! وصلتُ إلى البوابة محتمياً بمشجعٍ كان بطول هرم خوفو استطاعَ أن يجرف معه أيضاً مجموعةً من منتظري الخروج ما مكنّني الوصولَ خلفه إلى البوابة لكن من دون قميصٍ خارجي بعد أن خُلعَ عن جسدي نتيجةَ الشد والتلاحمِ العفويّ اللطيف بين المشجعين ! وما إن خرجت حتى فاجأني حاملُ الكبل الرباعي وأنا بالقميص الداخلي الشيّال بضربة كدتُ أفقد الوعي على إثرها، إذ التفّ الكبلُ على ظهري وصدري وكأنّ ثعباناً كان يخنقني.. لم أستطعِ البكاء ألماً أمام صديقي بعد أن خرجتُ من البوابة مظهراً له كبرياءَ الأستاذ الجامعيّ الذي لا تهينُه الشدائد فابتسمت له قائلاً بصوت يعتصره الألم: بسيطة ..الحمد لله ما طارت عيني. وفي الشارع احتدمتِ المعارك بين مشجعي الفريقين فحظيت حافلاتُ الفريق الضيف بمختلف أنواع الحجارة والبيض والبندورة وأكياسِ القمامة. التجأنا -صديقي وأنا- مسرعَين إلى مدخل بناء احتمينا فيه لنصفِ ساعة تقريباً إلى أن راقت الأجواءُ ما سمحَ لنا بعدها أن نغادر إلى بيوتنا.

في المنزل فتحت لي زوجتي البابَ لتسألني مذعورة يكاد يصعقُها منظري: يا لطيف!!!! ما الذي حصل لك؟؟ ثم أردفَت بسرعة قائلةً اممممم و..أين قميصك؟! شرحتُ لها منهكاً حالةَ الكرِّ والفر التي حصلت لإخراجي من باب الملعب ما تسبّب بخلع قميصي عني إضافةً لفتقِ بنطالي. همهمت طويلاً وهي تضع إصبعَها على فمها ثم تابعت السؤال: وما هذه اللدغةُ الثعبانية التي تلتفُّ على رقبتك. عدت فشرحت لها متململاً نصيبي من ضربة الكبلِ الرباعي على يد أحد رعاة حفظِ النظام عند بوابة الملعب. قالت لي: وهل ما زلتَ مصرّاً على أن أصغر نادٍ في سورية هو أحبُّ إليك من جميع منتخبات العالم؟ وهل ستعيد الكَرّة ثانيةً بعد كلّ ما حصل ؟ قلت لها: لن يثنيَني كلّ كابلات العالم عن حبّ الدوري السوري صمتت لثوانٍ ، وقالت: طيب ماذا سيقول الجيران عندما يرونك على هذه الحال؟؟ أستاذ جامعي يأتي إلى المنزل بلا قميص؟؟ وبالقميص الشيال الداخلي؟؟ وبنطاله مخزوق؟؟ ولطاخة حمراءُ من رقبته إلى منتصف صدره ؟؟ قل لي بالله عليك: من سيعرف أنك كنت تحضرُ مباراة بكرة القدم؟ وأنّ هذا ما حصل لك في الملعب ؟؟ قلت لها مبتسماً وأنا أدندنُ أغنية المطرب محمد جمال: و يقولوا شو ما يقولوا، حبيتك أنت وبس.
.

*أديب قاص وكاتب.. وزير التعليم السابق- سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى