قبل انهيار السقف .. غسان أديب المعلم

ربما كان التعريف الأكثر واقعيّة وقرباً لمعنى الإنسداد السياسيّ هو أنّ لاشيء سيحدث بإستثناء انتظار الناس انهيار السقف على رؤوس الجميع، فلا مكان لسقف التوقّعات من ناحية التشاؤم، أمّا على مقلب المتفائلين فأصبح ظاهراً للعيان بأنّ فائدتهم وارتباط وجودهم حتّى، مبني على إيقاع التصفيق والتهريج للسلطات لا أكثر .. وما بين الفريقين رغم الفارق الشاسع بالنسبة والتناسب من حيث الغالبيّة والأكثريّة مقابل القلّة المأمورة المأجورة، ينعدم النظام فيما بينها.
فالغالبيّة الشعبيّة لا تمتلك التمثيل الحقيقيّ المنظّم لأفكارها أو حتى شكواها أو رؤيتها أو حتى وزنها، فكلّ مايُسمّى “مؤسسات” هي عبارة عن مسارح للتهريج وإضفاء البهرج لهذا الهيكل على أنّه بلد مؤسسات بالفعل!.
فالناس، كلّ الناس تعلم علم اليقين بأنّ مجلساً كمجلس الشعب على سبيل المثال هو مجرد هيكلٍ كرتونيّ تقتصر مهمّته على التصفيق والتزمير والتطبيل لا أكثر، وأنّ أغلب المداخلات المُستحدثة التي يصبّ فيها بعض الأعضاء جمام غضبهم على وزيرٍ ما أو حتى وزارة كاملة ماهي إلّا مسرحيّة ساذجة لم تعد تنطلي حتى على المخبولين المعتوهين، وإلّا لكانت من بديهيات هذا الغضب جمع خمسة تواقيع على أقل اعتبار لمسائلة الحكومة وطرح حجب الثقة.
الأمر ذاته ينطبق على ما يُسمّى بالسلطة التنفيذيّة، والتي غالباً، بل دائماً، ما كانت تحمل ذات اللون الحزبيّ الوحيد، ومن انطفى تحت كنفه، فلا مسائلة ولا رقابة ولا من يحزنون.
فما حال باقي “المؤسسات”؟، وهل حقّاً الشعب السوريّ لا تليق به كلمة “الديمقراطيّة” أو لا يستحقّ الحياة الحزبيّة الحقيقيّة؟.
الإجابة على هذا السؤال يتحدّث عنها التاريخ، النظام البرلمانيّ الديمقراطيّ الأول كان في كنف هذه البلاد قبل آلاف السنين، ولكي لا نُتّهم بالغلوّ للتاريخ البعيد الذي يُغيظ الكثيرين من عديمي الانتماء لهذه الأرض، فالتاريخ القريب يشهد على الأقل ببعض المراحل التي سادت بها الحياة الحزبيّة الحقيقيّة، والتي بدورها كانت على موعدٍ لتأسيس بلد مؤسسات حقيقيّ قبل تآمر الكثرين من أعداء الخارج والداخل على حدٍّ سواء للحيلولة دون نشوء دولة مؤسسات ديمقراطيّة ستحدث أثراً في الحياة المعاصرة، وخصوصاً أن أهداف الأعداء في حينها كانت تنصبّ في خدمة انشاء كيانٍ غاصب يكون حاجزاً أمام المشروع الديمقراطي للدولة في سوريا، وبذات الوقت يكون الكيان الديمقراطيّ الأوحد مقابل ضعف الدول المجاورة التي سيغلب عليها الطابع الديكتاتوريّ وحُكم الحزب الواحد أو الملك الوحيد والعائلة الواحدة على امتداد البقعة الجغرافيّة المُسمّاة بالوطن العربيّ.
وبالعودة قليلاً إلى الوراء، فالحياة السياسيّة والتعدّدية الحزبيّة كانت موجودة بالفعل، سواء إبان الاحتلال العثمانيّ البغيض ومناهضةً له، وكذلك الأمر بعهد الاحتلال الفرنسي والذي أرسى ذلك الأمر عبر القوانين!.
فنشأت الأحزاب على اختلاف تطلّعاتها وأفكارها وداعميها ومناصريها، وبالتأكيد لم تحظَ بذلك الهامش من الحريّات طالما أنّ المحتلّ جاثمٌ على صدر الوطن .. لكن على أقل اعتبار فالمظاهرات كانت حاضرة، بل حتى مطالب الاستقلال.
وبُعيد تلك الفترة والاستقلال الكامل “عسكريّاً”، مع قرار سياسيّ بفضّ قوة الانتداب، أصبحت الساحة السياسيّة حُبلى بأحزابٍ جديدة وتطلّعاتٍ مختلفة رسمتها القوانين المُتعاقبة تأييداً عند كلّ انقلاب لصالح من قام به، وبذات الوقت ردّاً على الحُكم الجديد ومناوئة له، وكلّ المؤشّرات أو ماتناقلته أخبار تلك الحقبة، بأنها كانت الفترة الذهبيّة لضلوع الأحزاب بممارسة القرار الديمقراطي والمعارضة، وهي الفترة التي سبقت الوحدة بين سوريا ومصر، والتي أسفرت نتائج انتخابات إحدى سنواتها عن فوز نصف المُستقلّين مقابل النصف الباقي للأحزاب المختلفة التي كانت تسعى لنشر أفكارها ولملمة أكبر عددٍ من المناصرين ..
وظهرت التوجّهات في حينها حدّ الصراع بين أفكار القوميّات، بين من يطرح القوميّة العربيّة وبين من يطرح القوميّة السوريّة، وبين العلمانيّة وفصل الدين عن السلطات، وبين من يريد عكس ذلك، والكثير الكثير.
إلى أن جاءت الوحدة وكبّلت ومنعت الحياة الحزبيّة وأعطت الحُكم للعسكر والشعبة المخابراتيّة، وكان ماكان حينها من خلافات بدت واضحة بين الضباط السوريّين والمصريّين من جهة، وبين الشعور العام لأفراد الشعب بالغبن إثر التفرّد بالقرار أو الهيمنة من الجانب المصري الأكبر حين ذاك ..
فكان الانفصال، وكانت بعدها الحياة السياسية تذهب في صالح حزب البعث الذي سيطر على مقاليد الحكم وأصبح الآمر الناهي المتحكّم بالقرار السياسيّ وما دونه على جميع الأصعدة ليصبح القائد الوحيد للشعب وهو الدولة بحد ذاتها ولا شريك سواه، وانطوت بعد ذلك جميع الأحزاب تحت كنفه بما تمّت تسميتها بالجبهة الوطنيّة، وغادر من غادر وبقيت البلاد على هذا الحال حتى اليوم، أي دون حياة حزبيّة حقيقيّة، ودون وجود معارضة وطنيّة حقيقيّة أيضاً، حتى بعد قرار إنشاء الأحزاب الجديد إبان الأزمة، ظهر واضحاً بأنّ ماتمّ إنشاءه هو أجنحة للبعث ذاته بإسمٍ مختلف مع احترامنا لعديد الشرفاء منهم الذين اعتقدوا وظنّوا للوهلة الأولى بأنّ هناك تغيّراً قد حصل، بينما حقيقة الأمر أن هذه الأحزاب الحديثة المُستحدثة تقتصر مهامها أيضاً على تسليط الضوء على قرارات الحكومة والمشاجرات الجانبيّة على وسائل الاعلام لإعطاء صورة ديمقراطيّة، ولا يخلو الأمر أيضاً من اعتقال بعض الأعضاء كي تكتمل اللوحة.
في حين أن أهم مكاسب السلطات في سوريا هو وجود هذا العدد من السلطات برغم أنّ لا مناصرين لهم حتى من ذويهم وأفراد عوائلهم، في مقابل حفنة خارجيّة مأمورة خائنة تُسمّى جُزافاً بـ “المعارضة”، والمناهضة للسلطات في سوريا، فأصبح الانسداد مطبقاً وأضحى الأمل مكلوماً.
فأمام كلّ هذه الاستعراضات تزداد مأساة السوريّين يوماً بعد يوم، السوريّين اليتامى الذين لا يملكون من يمثّلهم أبداً ويُمنع أن يكون لهم ذلك الأمر تحت حجج واهيّة كأنّ تكون كلمة ديمقراطيّة بمثابة “كرت بلانش” للخيانة، وأنّ من يطالب بها وكذلك بالحريّات العامّة وتطبيق القوانين وتحقيق المواطنة هو عميل، أو أن هذا الشعب لا يستحقّ هذه العبارة، أو أن لديكم الخيارات المتعدّدة بالانضمام لأي حزبٍ تستهويه أفكاركم والساحة أمامكم.
نقول مجدّداً، وبلغة الجمع مستقوياً بما أراه وأقرأ للسوريّين المُحبّين على امتداد الوطن على وسائل التواصل وغيرها من المنتديات والمنابر، بأنّنا فعلاً في حال الانتظار لوقوع السقف الحتميّ مهما طال الزمان، والحلّ القويم أن تكون الدولة طبيعيّة لا استثناء، فلا بدّ من سلطة تخشى الشعب وتخشى الأحزاب وتخشى القانون.
ولا بدّ من شعب لديه تنوّع واختلاف بطريقة الادارة، وبأنّ من حقّ هذا البلد وجود معارضة وطنيّة تصوّب الأمور وتقف سدّاً بوجه من تسوّل له نفسه اغتنام المنصب للفساد.
الدولة الحقيقيّة هي من يخاف فيها المسؤول من الشعب، وتخشى فيها السلطات من ردّة فعل الشعب، ويكون المسؤول فيها مجرد خادم وليس إلهاً يُعبد، أمّا عندما يخاف الشعب من السلطة وأفرعها فعلى الدنيا السلام مهما بقي على “المنفسة”،
هذا الشعب وبما قدّم من تضحيات ودماء، يستحقّ الحياة السياسيّة الحقيقيّة من ديمقراطيّة وحريّات ومعارضة وطنيّة وقوانين عصريّة ومحاسبة، وإلّا فلينتظر الجميع انهيار السقف .. وسلامتك ياوطن.
إقرأ أيضاً .. “السبيل الوحيد” من هانوي حتى كونيكو ..
إقرأ أيضاً .. نهضة من تحت الرماد ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب