العناوين الرئيسيةدراسات وأبحاث

عندما تجرّع سقراط السم .. نجيب البكوشي ..


// يميل الناس إلى المبالغة في كل شيء، إلا أخطاءَهم يرونها لا تستحق النقاش // ..

// ســقراط // ..

ظهرت الفلسفة في اليونان القديم حوالي قرنين قبل ميلاد سقراط مع مجموعة من الفلاسفة اليونانيين من اهمهم؛ طاليس، الذي اعتبر ان الماء هو أصل الوجود، وديمقريطس الذي ذهب إلى ان اصل كل الأشياء هو الذرّة ، الجزء الذي لا يتجزّأ، وهيراقليطس صاحب فكرة التغيّر المستمر في الوجود والقائل ان المرء لا يستطيع ان يستحم في نفس مياه النهر مرتين، وبارمينيدس الذي عارض فكرة التغيّر واعتبر ان الوجود الحقيقي واحد ومتجانس وثابت. كان المبحث الأساسي لهؤلاء الفلاسفة الأول هو الطبيعة، في حين سيهتم سقراط بعدهم بمبحث الذات الإنسانية والأخلاق، وسيكون السؤال الفلسفي السقراطي سؤالا حول الماهيات؛ ماهية الخير وماهية الفضيلة وماهية الحق وماهية الشجاعة وماهية الحب.

اللحظة السقراطية هي لحظة فارقة في تاريخ الفلسفة، فإن لم يكن سقراط هو مؤسس الفلسفة ككلّ لأن الفلاسفة ما قبل السقراطيين سبقوه إلى ذلك فإنه يظل الأب الحقيقي لفلسفة الأخلاق.

ولد سقراط في أثينا سنة أربعمائة وسبعين (470)  ق-م، والده كان نحّات تماثيل وأمّه كانت قابلة تُولّد الأطفال، مهنة والدته ستُلهمه منهجه الفلسفي، وهو منهج التوليد السقراطي، يقول سقراط “إن صنعتي كصنعة المولّدة، ولكنني أولّد الأفكار لا الأطفال”.

إنطلاقا من نصّ شهير لتلميذه أفلاطون، يحمل عنوان دفاع سقراط سنقف على تفاصيل محاكمة سقراط في أثينا سنة ثلاثمائة وتسعة وتسعين(399) ق-م والحكم عليه بالإعدام.

اعتقد سقراط أنه هبة الآلهة لليونانيين، ويأتي تعلّقه بالفلسفة وسعيه وراء الحكمة لتحقيق رؤية هذه الآلهة، يذكر سقراط ان صديق طفولته شيريفون Chairephon ذهب لزيارة معبد دلفي، فسأل الكاهنة التي كانت الواسطة بين الإله أبوللو واليونانيين: هل بين الرجال من هو أكثر حكمة من سقراط؟ فأجابت: لا … ويضيف سقراط: فلما بلغ إليَّ الحديث سألت نفسي: ماذا تعني الآلهة بهذا الجواب؟ وإلى أي شيء تقصد؟ ولم يدرْ بخاطري قط أنني بلغت من الحكمة شيئًا، فماذا عساها تعني حين أجابت بأنني أوسع الناس حكمة؟ إنه لا يجوز عليها الكذب، فالكذب مستحيل على الآلهة ، ولقد لبثت في هذه الحيرة طويلًا أسائل نفسي عن معنى ما نطقت به الآلهة، وأخيرًا وبعد تفكير طويل قمت بالتجربة الآتية: التمست رجلًا ممن يتظاهرون بالحكمة، وظننت أني سأستطيع أن أفند قول الآلهة وأبلغها: «إن هذا الرجل قد بلغ من الحكمة ما لم أبلغ رغم قولك إنني أحكم الناس.» فما كدت أختبر الرجل — ولن أذكر هنا اسمه — وكان من أعلام أثينا، ولم يكد الحديث يدور بيننا حتى قلت في نفسي: «إن هذا الرجل وإن تظاهر بالحكمة أمام الناس وأمام نفسه، فهو لا يتصل بالحكمة في قليل ولا كثير.» وحاولت بعدئذ أن أدله على أنه ليس حكيمًا وإن توهم في نفسه الحكمة، فغضب مني كما غضب كثير ممن كانوا على مقربة منا، فانصرفت وقلت: «حسنًا، إنني أحكم من هذا الرجل على كل حال، فقد لا يعرف أحدنا شيئًا عن الجمال أو الخير، ولكنه يظن أنه يعرف شيئًا وهو لا يعرف، أما أنا فإن كنت لا أعرف فلست أدّعي على الأقل أنني أعرف، وإذن فأنا أحكم منه قليلًا. وقصدت بعدئذ رجلًا آخر كان المعروف أنه أحكم من سابقه، وأجريت التجربة نفسها، فغضب مني وغضب معه كثيرون، وهكذا التمست مدعي الحكمة واحدًا فواحدًا حتى أكملتهم جميعًا، وعلمت الحقيقة آسفًا.»

 الحقيقة المؤلمة التي استنتجها سقراط، ان الناس يدّعون الحكمة وليسوا حكماء، وان الآلهة أخبرت صديقه شيريفون ان سقراط هو أحكم الناس فقط لأنّه على وعي بجهله، وكلّ ما يعرفه انه لا يعرف شيئا. طيلة خمسين عاما، سيمضي سقراط في رحلة بحث عن الحقيقة  يجوب فيها شوارع أثينا حافي القدمين، بالي الثياب، يحاور جميع الأثينيين دون استثناء: الفقراء والأغنياء، الشيوخ والشباب، الأصدقاء و الخصوم، رجال السياسة والشعراء، الخطباء والسفسطائيين. كان سقراط في ساحة الأغورا يُعلّم الناس ويدرّبهم على الحكمة مجانا، في حين كان السفسطائيون يتقاضون أجورا مرتفعة مقابل تعليم الأثينيين فن الخطابة للوصول إلى وظائف عليا في الدولة. لم يكتب سقراط شيئا من تعاليمه الفلسفية، لأنه كان يُعظّم الحكمة، ويرى انه لا يمكن ان نستودعها الصحف والقراطيس تنزيها لها، فالحكمة مقدّسة وينبغي ان نستودعها فقط النفوس الحيّة. يوجد في نظر سقراط جانب دغمائي في تدوين وكتابة الأفكار، والدغمائية هي نقيض الفلسفة. فهو يرى ان كتابة الأفكار تجعلها ثابتة ونهائية وما على المُتلقّي سوى البحث عن الحقيقة بين دفتي الكتاب، في حين ان الفكر في تقديره في صيرورة مستمرّة ولا يمكن سجنه بين دفتي كتاب، هذه الصيرورة الفكرية للوصول إلى الحقيقة تقوم حسب سقراط على مبدأين أساسيين وهما؛ الجدل والتهكّم، المكوّنين لعمليّة التوليد السقراطي. عبر الجدل سنمرّ من الإعتقاد إلى التفكير، من الظنّ إلي المعرفة، والجدل يستوجب وجود محاور، وجود الآخر، والفلسفة هي فن استخراج الحقيقة من داخل المُحاور وليس فن تلقينه الحقيقة من خارج ذاته، فالحقيقة عند سقراط ليست عمودية أي لا تأتي من الأستاذ إلى تلميذه بل هي أفقية لا تخضع لقطبي الباث والمُتلقّي، وتأتي نتيجة صيرورة داخلية، لأن هذه الحقيقة ما قبلية وقابعة في داخل الإنسان ودور الفيلسوف هو مساعدته على تذكّرها لأن المعرفة تذكّر والجهل نسيان. عملية استخراج هذه الحقيقة من المحاور باستعمال بداغوجية التهكّم والسخرية هو ما يُسمّى بالتوليد السقراطي. التوازي بين مهنة سقراط كمولّد للأفكار ومهنة والدته كمولّدة للأطفال يبدو جليّا، فأمّه القابلة مهمتها تقتصر فقط على إخراج المولود من بطن الأم ولا علاقة لها بعملية خلق ونشأة هذا المولود في بطن أمه، كذلك سقراط الفيلسوف مهمته توليد الأفكار القابعة داخل محاوره وليس تلقينه أفكارا مُسبقة وجاهزة.

التهكّم الذي كان يعتمده سقراط في محاورة الأثينيين ليدفعهم نحو الإعتراف بتناقضاتهم ليدركوا جهلهم، سيجلب له كراهية وعداء النخبة الأثينية، التي رأت ان تعاليم سقراط التي تدعو للريبة والشك تمثّل خطرا على معتقدات أثينا.

 أثينا التي خرجت لتوّها مهزومة من حرب دامت حوالي ثلاثين عاما ضد اسبرطة دارت بين سنتي، أربعمائة وواحد وثلاثين وأربعمائة وأربعة (431-404) قبل الميلاد، وفرضت على اثرها اسبرطة نظاما أوليغارشيا على أثينا عوض نظامها الديمقراطي، عُرف بنظام الطغاة الثلاثين قاده تلميذ سابق لسقراط يُدعى كريتياس Critias. الذي يعتبره بعض المؤرخين المعاصرين روبيسبيير اليونان القديم بسبب قسوته في تعامله مع خصومه. كريتياس سيقوم باعدام ونفي الآلاف من أنصار النظام الديمقراطي في أثينا. لكن حكم الطغاة الثلاثين سينهار بعد ثمانية أشهر فقط لتعود الديمقراطية من جديد إلى أثينا.

الحكومة الأثينية الديمقراطية لن تنسى لسقراط جرائم تلميذه كريتياس رغم ان سقراط كان حريصا على أن لا يُقحم نفسه في الصراعات السياسية، وظل على نفس المسافة بين الأرستقراطيين و الديمقراطيين، وكان له تلاميذ وأتباع في المعسكرين السياسيين، إلى جانب انه كان جنديّا في الجيش الأثيني في الحرب ضد اسبرطة.

 بعد ثلاث سنوات من نهاية حكم الطغاة الثلاثين في أثينا، سيستغلّ ثلاثة مواطنين قانونا جديدا أقرته الحكومة الديمقراطية ينص على معاقبة كل من يتطاول على آلهة المدينة، وسيتقدّمون إلى المحكمة بشكوى ضد سقراط، موجّهين إليه  ثلاثة تهم: التهمة الأولى إنكاره آلهة اليونان، والتهمة الثانية دعوته إلى آلهة جديدة، والتهمة الثالثة إفساد عقول الشباب. المواطنون الأثينيون الثلاث الذي اشتكوا سقراط هم: “ميليتوس” وهو شاعر شاب مغمور، و”ليكون” وهو من خطباء المدينة و”أنيتوس” زعيم الديمقراطية الأثينية وهو الطرف الأساسي في الدعوة والذي يعتبر ان سقراط بتعاليمه التي بثّها بين الشباب الأثيني ساهم في هزيمة اثينا امام اسبرطة.

في ربيع سنة ثلاثمائة وتسعة وتسعين (399) ق-م ستحاكم أثينا عقلها، وسيمثل سقراط وهو في السبعين من عمره من شروق الشمس إلى غروبها امام محكمة المدينة، التي كانت تتألّف من خمسمئة وواحد من المواطنين الأثينيين، كلّهم من الرجال، لأن المواطنة في الديمقراطية الأثينية القديمة تُمنح فقط للرجال الذين اتموا الخدمة العسكرية، ولهم وحدهم الحق في ادارة شؤون المدينة، ويستثنى من حق المواطنة النساء والأطفال والغرباء والعبيد. المحامي الأثيني الشهير ليزياس Lysias سيقدّم مذكّرة دفاع لسقراط كي يتلوها امام هيئة المحكمة كما يُخوّل له القضاء الأثيني، ولكنّ سقراط سيرفض هذه المذكّرة، وسيقول لليزياس، خطابك جميل جدا لكنّه لا يشبهني، فالملابس الفاخرة لا تناسبني، سأتولّى الدفاع عن نفسي بنفسي.

في البدء قام المواطنون الثلاث ميليتوس وأنيتوس وليكون بعرض التهم التي وجهّوها إلى سقراط امام هيئة المحكمة والمحلّفين، ثمّ سمح القضاة للمتّهم بالدفاع عن نفسه.

بدأ سقراط بقوله الآتي: “لا أدري أيها الأثينيون أيّ انطباع تركه فيكم الذين اتهموني. فيما يخصني، وأنا أسمعهم كدت أنسى من أنا، من فرط كلامهم المنمّق. ولكن أستطيع ان أؤكد لكم ان كل ما قالوه في حقّي لا توجد فيه كلمة صادقة.”

يشرح سقراط لهيئة المحكمة ان خصومه شوّهوا صورته عند الأثينيين منذ عقود من الزمن، ويذكر أساسا مسرحية السُحب للشاعر الكوميدي أريسطوفان، والتى عُرضت في ساحة الأغورا وكان موضوعها السخرية من سقراط، ويصوّر فيها أريسطوفان شيخ أثيني ثري غرق في الديون بسبب سوء تصرّف  زوجته وابنه في أمواله، هذا الشيخ سيقنع ابنه بالذهاب ليتعلّم على يد سقراط مهارة قلب القضايا الظالمة إلى قضايا عادلة، وبذلك يمكنه من أن يكسب أية دعوى قضائية تقام ضده من دائنيه. ولكن الإبن الذي تحوّل إلى سفسطائي بارع سينقلب على والده وأمه، وسيقوم بضربهما، وتنتهي المسرحية بتوجه الشيخ نحو منزل سقراط لحرقه باعتباره سبب كل ما حلّ به من بلاء. جعل أريسطوفان في مسرحيته من سقراط سوفسطائيا مأجورا والحال ان سقراط كان من أكبر خصوم السفسطائيين.

يوضّح سقراط لهيئة المحكمة سبب عداء شعراء أثينا وتشويههم له وخاصّة أريسطوفان، فيقول بعد ان اختبر رجال السياسة وعرف انهم لا يمتلكون الحكمة توجّه إلى الشعراء ليختبر حكمتهم، وتبيّن له انهم يقولون اشياء جميلة ولكنّهم لا يدركون الجمال، فهم لا يبدعون عن حكمة بل عن طريق الإلهام مثل العرّافين. يوضّح سقراط لهيئة المحلّفين ان الثلاث المشتكين به يعبّرون عن الحقد الدفين الذي تكنه له ثلاث شرائح في المجتمع الأثيني؛ ميليتوس يعبّر عن حقد الشعراء، وأنيتوس عن حقد الصناع ورجال السياسة، و”ليكون” عن حقد الخطباء.

 يدحض سقراط التهمة الأولى التي وجّهها له ميليتوس وهي انكار آلهة أثينا ويشرح للقضاة تهافت التهم  التي وجهها له ميلتوس؛ حيث ادّعى هذا الأخير ان سقراط مُلحد ويسعى لإستبدال آلهة أثينا، فأجابه سقراط كيف لي ان أكون ملحدا بالآلهة وفي نفس الوقت أسعى لإستبدالها بآلهة جديدة، فردّ ميليتوس ان سقراط ملحد بآلهة أثينا بدليل انه يعتبر ان الشمس والقمر ليسا الاهين بل كتلتين من الصخور، فيجيبه سقراط كاشفا عن جهله ان هذا القول ليس له بل لأنكزاغوراس، الذي اضطرّ قبل سنوات من محاكمة سقراط إلى مغادرة أثينا للمنفى بسبب أفكاره تلك. يحاول سقراط اقناع المحكمة وهيئة المحلّفين انّه لا ينكر آلهة المدينة، بل ان تفلسفه وتدريبه للأثينيين على الحكمة هو استجابة لدعوى من آلهة الأولمب وان الديمون، الصوت الداخلي الذي ينهاه عن فعل الشرّ هو صوت الآلهة، هذا الديمون السقراطي المحايث سيصبح الخير الأسمى مع تلميذه أفلاطون والمحرّك الأوّل الذي لا يتحرّك مع أرسطو وهو ذاته الإله التوحيدي المفارق في الديانات التوحيدية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، اذن فكرة التوحيد الإلهى هي فكرة سقراطية بالأساس. قال سقراط في دفاعه عن نفسه امام هيئة المحكمة: ” أيها الأثينيون حتّى لو برأتموني، وقلتم لي انكم لن تأبهوا هذه المرّة بأقوال أنيتوس وستطلقون سراحي ولكنّ بشرط أن أكف عن إمتحان الناس وأن أقلع عن التفلسف والفلسفة. وإذا قلتم لي اذا ضبطناك  وأنت تخالف ما نهيناك عنه فسنقوم بإعدامك. أيّها الأثينيون، لو أطلقتم سراحي بهذا الشرط فسأجيبكم حتما: أنّني أحبّكم كثيرا وإنني خادمكم، ولكن طاعتي للآلهة أقوى من طاعتي لكم. ومادام فيّ نفس يتردد، فلن أتوقف أبدا عن التفلسف وعن نُصحكم وعن اعطائكم الدروس، وسأردد كعادتي على مسامع كل من يعترضني في الطريق : “ أيها الأثيني ألا تعتلي وجهك حمرة الحياء والخجل وانت المواطن في مدينة هي أعظم مدن العالم وأشهرها قوّة وحكمة وتجعل همّك الوحيد هو تكديس المال، ونيل الشهرة والمجد، ولا تهتم مطلقا بإدراك الحق وبلوغ كمال النفس”؟

 فُتن الشباب في أثينا وخاصة الأرستقراطي منه بخطاب سقراط والتف حوله التفافًا شديدًا، وكان من أبرز تلاميذه الأرستقراطيين أفلاطون تلميذه الوفي الذي نقل أفكاره، وكريتياس الذي تزعّم حكم الطغاة الثلاثين، وكذلك ألسيبياد قائد الجيش الديمقراطي ضد اسبرطة و الفيلسوف كسينوفون الذي كتب نصا حمل نفس عنوان نص افلاطون حول محاكمة سقراط، دفاع سقراط.

سيبين سقراط لهيئة المحكمة انه كان أمينا في تربية شباب أثينا وانه عمل طوال حياته على تحصين عقولهم بالحكمة والمعرفة الحقيقية، وأن تهمة إفساد عقول شباب أثينا هي من نسج خيال خصومه، بدليل انه وهو في السبعين من عمره لم يمثل ولو مرّة واحدة امام المحكمة ولم يسبق ان اشتكاه أي مواطن أثيني.

يُذكّر سقراط الأثينيين ان المرّة الوحيدة التي كان فيها عضوا في مجلس شيوخ المدينة رفض حكم الإعدام الذي صدر ضد القادة العسكريين اليونانيين الذين قادوا معركة أرجينوز  La bataille des Arginuses لانهم لم يجلبوا جثث جنود اسبارطيين ماتوا في عاصفة في عرض البحر، ويقول انه صوّت ضد اعدام هؤلاء القادة في ظل النظام الديمقراطي الأثيني لأن الحكم عليهم يخالف القانون والعدالة، فتمّت محاسبتهم بصورة جماعية عوض محاسبتهم بصورة فردية، و يذكر سقراط كذلك انه في ظل حكم الطغاة الثلاثين رفض اعدام ليون السلاميني  Léon de Salamine احد قادة الحزب الديمقراطي.

عندما انهى سقراط دفاعه عن نفسه، امر القضاة هيئة المحلّفين بالتصويت على ادانة سقراط او تبرئته وكانت نتيجة التصويت، مئتان وواحد وثمانون (281) صوت بالادانة مقابل مئتين وعشرين(220) صوت بالتبرئة.

سقراط، الذي كان يتوقّع ادانته، سيتوجه لهيئة المحلّفين قائلا: إن الحكم الذي أصدرتموه في حقي لا يحزنني، لكن ما فاجأني كثيرا هو الفارق الضئيل بين الأصوات المؤيّدة لي وتلك التي تدينني. ما كنت أتصوّر أن يكون الفارق ضئيلا إلى هذا الحدّ، لذلك أعتقد أنّني نَجَوتُ من ميليتوس. وأردف بشجاعة نادرة أن لا ميليتوس ولا أنيتوس ولا ليكون الذين طالبوا بإعدامه يستطيعون إيذاءه، لأن الأشرار لا يستطيعون إيذاء الأخيار. ويضيف انه لا يخاف الموت، لأن لا أحد فينا يعرف ماهو الموت بالفعل، وهل ان الموت هو خير مطلق أو شرّ مطلق، فعندما نكون لا يكون الموت وعندما يكون الموت لا نكون نحن، لذلك لا يوجد أي سبب يجعله يخاف من شيء يجهله. ولكنّه ينبّه الأثينيين من مغبّة الحكم بموته، لأنهم سيسيؤون لأثينا، وسيقول عنهم اعدائهم انهم قتلوا حكيما في حين انه ليس كذلك. وسيكون من الصعوبة بمكان على الأثينيين ان يعوّضوا رجلا في حجم سقراط سخّر كل حياته لخدمتهم ولم يلهث وراء الجاه أو المال. ويضيف انه شيخ في  السبعين وقريب من الموت ولو انتظر الأثينيون قليلا لرحل دون حاجة للحكم بإعدامه.

بعد ان أصدر القضاة حكمهم بثبوت التهمة على سقراط، وفي المرحلة الأخيرة من المحاكمة، سيقوم المدّعون الثلاث باقتراح عقوبة، ومن حق سقراط ان يقترح عقوبة بديلة ليعاد التصويت من جديد من طرف هيئة المحلّفين. المدّعون الثلاث ميليتوس و أنيتوس وليكون سيطالبون هيئة المحكمة بإنزال عقوبة الإعدام بالمتهم. وجرت العادة أمام محاكم أثينا أن يقف المتهم أمام القضاة باكيًا ومسترحمًا، ويُحضر زوجته وأبناءه ليثير الشفقة والرحمة في نفوس هيئة المحلّفين، لكن سقراط سيأبى عن نفسه ذلك، وسيحوّل محاكمته إلى محاكمة للقضاة الذين أدانوه، وسيكشف حدود الديمقراطية الأثينية التي ستقدّم عقلها قربانا لتحافظ على استقراررها. سيرفض سقراط المنفى كعقوبة بديلة لأنّه مواطن أثيني، ويرفض مغادرة أثينا مثلما فعل قبله الفيلسوف أنكزاغوراس وبعده أرسطو الذي سيغادر أثينا قائلا لن اترك الأثينيين يرتكبون جريمة أخرى في حق الفلسفة، في إشارة إلى محاكمة سقراط. سقراط سيذهب بعيدا في تحدّي القضاء الأثيني عندما يطالب بمكافأته بالإقامة والأكل والشرب مدى الحياة في المجلس الأعلى للمدينة Le Prytanée، حيث توجد شعلة النار التي لا تنطفئ أبداً، وأين يُقيم القضاة وكبار رجال الدولة والأبطال الأولمبيين.القضاة وهيئة المحلفين سيعتبرون ان سقراط يستخفّ بسلطتهم وبقوانين المدينة، وسيصوتون هذه المرّة بأغلبية ساحقة مع حكم الإعدام ضده، وسيرفضون الغرامة المالية التي اقترحها تلاميذه كعقوبة بديلة.

سقراط سيتوجّه للقضاة الذين أقرّوا عقوبة الإعدام في حقه قائلا؛ انتم أشباه قضاة، وسأرحل عن عالمكم  لألتقي في عالم آخر بالقضاة الحقيقين الذين يحكمون بالعدل مثل مينوس Minos و وإياك Éaque وردمنت  Radamante ابناء الاله زيوس، وسأكون سعيدا بلقاء هزيود وهوميروس وسيزيف وكل الأبطال الذين ماتوا نتيجة الأحكام الظالمة.

وآخر ما نطق به سقراط أمام هيئة المحكمة هي الكلمات التالية: “لقد دنت ساعة الرحيل، أمّا أنا فسأرحل إلى الموت، وأمّا انتم فستمضون إلى الحياة، فحظّ أي منّا أفضل، ذلك أمر لا يعلمه إلا الإله.”

قضى سقراط في سجنه ثلاثين يومًا ينتظر تنفيذ حكم الإعدام، وسيلقّن الأثينيين درسا في المواطنة وفي احترام قوانين المدينة عندما رفض الهروب من السجن واختار ان يتجرّع كأس السمّ التزاما بأفكاره وقيمه.

 

*نجيب البكوشي باحث وكاتب تونسي – باريس .

 

المرجع: دفاع سقراط، أفلاطون.

Apologie de Socrate,  Platon, Traduction par Luc Brisson, Éditeur, Flammarion 2017.

 

http://https://youtu.be/g3ElaYz-G9Y

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى