عمرو سالم .. المسألة ليست في وزير .. يزيد جرجوس

مع صدور مرسوم التعديل الحكومي في سوريا، ضَجَّت مواقع التّواصل السّورية بردود الأفعال المتباينة، خاصة فيما يتعلق بشخص عمرو سالم وزير التجارة الداخلية ووزارته، ويمكننا بقليل من التّفكير أن نتبيّن أسباب ذلك، التي أضع في مقدمتها ملامسة هذه الوزارة تحديدا لأكبر المشاكل التي يعاني منها المواطن السوري اليوم، والتي جعلت من القرار مدعاة للتندُّر أو حتى فرصة لتصفية الحسابات افتراضيا مع الرَّجل بشخصه، برغم أن أغلب السوريين لو ناقشتهم قليلا سَيُقِرُّون بأنَّ المسألة أولا لا تتعلق بشخص الوزير غالبا بقدر ما تتعلق بالمؤسسة التي يرأسها ويديرها لفترة من الزّمن، وثانيا فإن الأزمة المعيشية القاسية التي يعاني منها السوريون لا ترتبط فقط بمهام ومسؤوليات وزارة التَّجارة الدّاخلية حصرا، ولكنها تتعلق بمجمل عمل عدد من الوزارات تقف في المقدمة منها هذه الوزارة، على الأقل من وجهة نظر المواطن.
لا يمكن إهمال وجهة النّظر التي تقول بأنَّ شخصيّة الوزير المعني هنا تحديدا شكّلت استفزازا “ثنائي القطب” للمواطن بين مريد ومنتقد، لأسباب تتعلق بنشاطه المعروف على وسائل التّواصل الاجتماعي من جهة، ولإطلالاته الإعلامية المتكررة والتي اعتبرها الكثيرون “غير موفقة” خاصة لجهة بعض التصريحات التي كان يُمكن تَجَنُّبُها، مثل تصريحه حول قيامه “بشراء كغ بصل على البطاقة الالكترونية” حيث شكل هذا التصريح –برغم إمكانية أن يكون صادقا- استفزازا لما فيه من التبسيط للمسألة، فالمواطن السوري يُدرِك أن الأتمتة شكلت حلا جيدا لإدارة الندرة في الموارد والمواد التموينية، ولكنه يتوقع من الوزير تصريحات وأفعال تتعلق بتأمين المزيد من تلك المواد، وليس محاولة إقناعه بالقليل المتوفر منها، فهذا سيدفعه للشعور بالضّيق أكثر خاصة عندما تكون تلك المحاولة عبر مقاربة مبالغة في تبسيطها كالقول بأن “المسؤول الفلاني يقوم بنفسه بشراء كذا..” فالجميع يعرف أن الوزير لديه طاقم من العاملين لتأمين حاجاته حتى يتفرغ هو لتأمين حاجات الناس، وإقدامه هو على محاولة تصدير صورة ميدانية عن نفسه، لن يُكلِّلها النَّجاح إلا إذا كانت ميزة دائمة لسلوكه من ناحية، وبقدر ما تبتعد عن الافتعال في التوثيق الإعلامي من ناحية ثانية.. هذا واقع لا يمكن تجاوزه مهما كانت النوايا حسنة.
في مقالي هذا سأحاول المرور على تلك المرحلة (السنتان الماضيتان) التي نأمل أن نكون على أعتاب طَيّها بمرونة وتبَصُّرٍ بحيث يتم تصحيح ما حدث فيها، واتخاذه كدرس نتعلم منه جميعا كسوريين في مواقع المسؤولية وفي الشّارع وبين النّاس، حتى لا نُكرر الخطأ وحتى نطور أداءنا كمواطنين في مواقع المسؤولية وخارجها أيضا.
في هذه الفترة الزّمنيّة تم رفع الدّعم عن عدد كبير من المواطنين السُّوريين بطريقة مُجحِفَةٍ وغير موضوعية، بذلت فيها الحكومة مجهودا كبيرا جدا، ولكنه أنتج مقاربة غير منصفة وغير موضوعية للملف، تسبب بإرهاق السوريين بتكاليف كبيرة جدا إن لجهة حجب الدعم عن شرائح واسعة منهم بطريقة اتّسمت بالتّعميم والتّأطير دون تكلف عناء التّفكير بطرق أكثر حكمة في معالجة المسألة، أو لجهة تحميل بقية الشرائح لعبء رفع الدعم ذلك، كون من رُفِعَ الدعم عنه هو مواطن تم وضعه في موقف اضطره لرفع أجور خدماته وسلَعِه حتَّى يتمكّن من ردم الهوَّة المادية الكبيرة التي أوقعه حجب الدّعم فيها، وتاليا عاد المواطن المدعوم ليشارك في تلك التكاليف بطريقة غير مباشرة، فتحول رفع الدعم هنا لحالة عامة تضرر منها الجميع، ناهيكم عن فكرة التمييز بين المواطنين في حق مكتسب ودستوري لهم انطلاقا من شراكتهم في الناتج المحلي السوري، بغض النّظر عن امكاناتهم المادية المتفاوتة تفاوتا بسيطا متراكما متنوعا لا يمكن شطبه وفق ثنائية كونكريتية (أبيض/أسود) أو متاح/غير متاح، حيث كان يجب ربط تخفيض الدعم وإعادة توجيهه بصورة علمية مع قدرة المواطن على الاستهلاك، بعيدا عن توصيفه حسب مهنته توصيفا يجافي واقع التفاوت الكبير بين أبناء نفس المهنة من حيث الدخل والقدرة الشّرائيّة، وكل ذلك كان سيتم دون أدنى حاجة لإجراء أي دراسات وترتيبات مُجهِدة قامت بها أجهزة الحكومة مجتمعة، وأنتجت كمية كبيرة من الأخطاء في المعلومات بين من يمتلك عقارا أو سيارة وبين من لا يمتلك، وبين من هو داخل القطر أو خارجه.. الخ، إرهاصات تسببت بمشاكل كبيرة في تقييم وضع المواطنين لم تتحمل الحكومة مسؤوليتها، حيث لم تتخذ وزارة التجارة الداخلية قرارا شجاعا بوقف تلك الإجراءات وتأجيلها حتى يتم استكمال وتصحيح البيانات من قبل المؤسسات الحكومية التي أخطأت هي في جمع البيانات، ولكنها كلّفَت المواطنين على تنوع ظروفهم وتعدد الأخطاء التي حدثت في بياناتهم، أن يقوموا هم بتصحيح كل ذلك وعلى حسابهم المعنوي والمادي المرهق، في إجراء كان قاسيا جدا على النّاس، خاصّة وأنّه كان يُمكِن تداركه بتحمل المؤسسات الحكومية لمسؤوليتها بديلا عنهم، وكان يمكن أيضا وبصورة أكثر حكمة وعقلانية ودستورية الأخذ بالمقترحات العلمية المدروسة بعناية والتي قدّمها الكثير من السوريين، مثل مقترح تشريح أسعار المواد المدعومة دون اللّجوء لرفع الدّعم عن أحد، لما يشوب ذلك من تضارب مع روح المواطنة والشراكة في رأس المال الوطني للجميع.
إنَّ وزارة التجارة الداخلية وإن كانت المعني المباشر بملف أسعار السّلع في السّوق السّورية، ولكنّها علميا ومؤسساتيا ليست المعني الوحيد ومن الظّلم اعتبارها كذلك، أو تحميلها وحدها تبعات الغلاء الكبير، الناتج بالدّرجة الأولى عن التّضخم وعن سلسلة مترابطة من أزمات تتعلق بالعقوبات وأجور الشّحن وتكاليف التّأمين على الشُّحنات الواصلة إلى سوريا على قِلَّتِها، إضافة لتقنين الاستيراد وأزمات الوقود والكهرباء التي يعاني منها المنتج والتاجر والمستهلك، والتي تتكفل بمضاعفة الأسعار بصورة تلقائية كون كل حلقات الانتاج والتسويق تتحمّلُ أكلافا مضاعفة في سبيل تأمين أساسيات إقلاع العمل والإنتاج والحفظ والتّوصيل.. إلخ.
هذه الملفات وبرغم أن بعضها وخاصة كمسببات ليست تحت سلطة الحكومات المتعاقبة، ولكن إدارة النّقص وتردي الشبكات والوسائط، هي ضمن اختصاص هذه الحكومات لا بل من واجباتها، فهي وُجِدَت لوضع خُطط المواجهة، ولمُتابعة تنفيذها بكل أمانة وجهد، لا أن تتحول إلى مؤسسة إعلامية تبريرية، تمتهن إعادة تلاوة الأعذار نفسها وبصور مُكرَّرة، على أسماع مواطن بدوره فقد الكثير من الحكمة والتوازن في التعاطي مع مفردات الواقع، ليس لعيب فيه ولكن لأنّ الظّروف القاهرة وحدها كفيلة بإضعاف مناعة التّلقي ووضع التّصورات المنطقية عن المستجدات، مِمّا يُحَتِّم على المؤسَّسات المنوطة بالتّعامُلِ معه بذل جهود غير تقليدية ليس للشّرح، ولكن للفعل أولا، فالأفعال هنا تصير أبلغ لغة لإيصال الأفكار، وحتى لا تَغرَقَ هذه الأسطر في السّلبيّةِ وفي الخروج عن المنطق الذي تدعو إليه، لا بُدَّ لنا من الإقرار بنجاح الحكومات في التَّصدّي لِبعض الملفّات لجهة وضع آليات مرنة ومُنضبِطة في إدارة النُّدرة خاصّة مع اعتماد الأتمتة في مواجهة الفساد البشري، الذي أثبت أنّه لا يُمكِن تجاوزه وقت الأزمات الطّاحِنة عبر التّعويل على العنصر الإنساني، ولكن من خلال تطوير النّظم والإجراءات التي تُحَدِّد دوره وتوَجِّهُ طبيعتَه الميّالة للاستغلال والفساد، إنّ هذه هي وظيفة الحكومات على كل حال.
في الفترة الماضية استمرَّت الحكومة بشكل عام بالتّفكير بعقلية تغلب عليها سِمَة الجباية، والافتقار للتصورات الشجاعة الكفيلة بوضع أطر لرعاية القطاعات الإنتاجية وتحفيزها بديلا عن مُحاصرتِها تحت عنوان “التَّسعيرة” وفرض العقوبات التي يمكنها إرضاء بعض النّاس لفترة قصيرة، كونها ستفشل في تحقيق الهدف الحقيقي المرجو منها، وهو تحسين الوضع المعيشي، وهذا يتطلب إما تحسين الدّخل أو تخفيض الأسعار، عنوانان يتطلّبان الرّعاية والتّحفيز وتخفيض التّكاليف وإفساح المجال للعمل، وليس إجراءات التّضييق على الإنتاج ورفع تكاليفه ما تسبب بنقص العرض وارتفاع إضافي للأسعار.
برغم أن وزارة التّجارة الدّاخلية استطاعت التدخل الإيجابي مستجيبة لبعض الأزمات العابرة التي مرّت على السّوق عبر تأمين مادة ما ارتفع سعرها بشكل مفاجئ وكبير، وطرحها عبر الأتمتة في صالاتها منعا لاستخدام بعض كوادرها هي لتلك الأزمة في تحقيق عوائد السمسرة التي اعتادوا عليها، من خلال بيع المواد غير المتوفرة لتجار محتكرين “يتقاسمون معهم الخراب”، ولكن ذلك ليس بالضّبط كل ما يجب أن تفعله هذه الوزارة بالتّعاون والتّكامُلِ مع بقية الوزارات كالإقتصاد والكهرباء والنفط والمالية.. الخ، حيث أنّ منهج عمل هذه الوزارات معا يجب أن يَصُبَّ في اتجاه الهدف المذكور أعلاه وهو تحسين الوضع المعيشي وحماية العملة والإنتاج الوطنيين لزيادة العرض وتحسين القوة الشّرائية للنّاس.
في النّهاية وأنا أسجل للوزير عمرو سالم جزئيّة تعاطيه برحابة صدر مع منتقديه الذين وصل بعضهم لِحَدّ التشهير والتَّنمُّر بعيدا عن النّقد الموضوعي أو تقديم النّصيحة والرّأي، ولكِنّي أيضا أستطيع أن أُسَجِّل عليه إهماله للنوع الآخر من النقد الإيجابي الذي قدم له الكثير من الأفكار البناءة على طبق من حب الوطن والإحساس بالواجب العام، ولكن الأهم من كل ذلك هو أن ننتقل جميعنا من انتقاد الرجل إلى التعلم من تجربته، ومطالبة الوزير الجّديد والحكومة المُعَدّلة مؤخرا، بإجراء مراجعة جريئة لما تم القيام به خلال السنوات الماضية، وخاصّة في موضوع التضييق على العمل والإنتاج وفي سياسة رفع الدّعم بدل إعادة توجيهه، لأنّ الشّعب السّوري يستحِقُّ الأفضل.
إقرأ أيضاً .. ابن خلدون .. العرب والمسلمون
إقرأ أيضاً .. “الكم والنوع”.. إعادة قراءة لمفاهيم “ثابتة” ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحاتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter