عبد الكريم الناعم .. جبل لا تهزه ريح .. يزيد جرجوس ..

عبد الكريم الناعم .. جبل لا تهزه ريح ..
عند اتصالي به قبل أيام لتحديد موعد لزيارته والتعرف عليه شخصيا، وهو الاسم الذي لطالما سمعته في طفولتي وشبابي على لسان والدي في منزلنا منزل الكتب والمعرفة والثقافة .. ردَّ عليَّ ببرود أثار فيَّ شيئاً من الاستغراب، وأنا شخص مولعٌ بقراءة لغة السلوك والجسد، ولطالما دأبتُ على محاولة فكفكة شيفراتها واكتشاف المعاني المتوارية خلف كل تفصيلة منها.
كان يلزمني انتظار بضعة أيامٍ حتى أكتشف بنفسي مفردات تلك اللغة الهادئة حتى البرود، التي استقبل بها صوتي على الهاتف .. عند وصولي إلى باب داره، وبعد أن طرقته بيدي استباقاً واستسلاما لكهرباء مقطوعة على كل حال، سمعتُ صوته الجهوري الواثق ذاته من الداخل يقول “نعم” في نبرة أراد منها كما ظننتُ طمأنة الطارق أنه قادمٌ إلى الباب.
بعد استقبال رصين لم يختلف كثيرا عن الصوت الأول على الهاتف في بروده الذي بدأ يحمل المزيد من الحكمة ههنا، دخلنا عبر أكثر من صالة للجلوس مرتبة وجاهزة للاستقبال، ولكن مضيفنا أهملها دون حتى التفاتة منه، وتابع قيادتنا إلى ما هو أجمل وأكمل وأكثر هيبة ووقاراً .. يقودك إلى الصالة المكتبة، يصح أن نقول المكتبة التي تتخذ شكل “صالون” باستطالتها وطقمي الجلوس المرتاحين على ضفتيها والمحاطين بجدران تزهو وهي متخمة بالكتب .. شامخة تماما كما هو صاحبها الذي بدا راسخاً كالجبل الذي لا تحركه طوالع المناخ رغم أنها تنحت من تضاريسه خطوطاً ورسوماً هنا وهناك.
هنا كان للمكان طعمه المختلف، الذي تنبئك به الكتب والأقمشة التراثية العربية التي تغطي كراسي الجلوس حيث توسط الأستاذ جلسته، ومع فنجان من البن الشهي جدا ربما لنوعه، وربما لاكتمال أجوائه .. بدأ بهدوء يخبرنا عن اعتزاله للشعر منذ ثلاثة أعوام!! وهل يعتزل الشعراء حقا؟!! إذا كان الرياضيون يعتزلون في زمن الذروة وقبل برهة زمنية من بداية مؤشر تراجع مقدراتهم البدنية، أو بعده بقليل .. فما الذي يدفع الشاعر للاعتزال وهو صاحب الخط البياني المختلف في رياضيات المقدرات التحليلية، فهو كالقطع المكافئ ما ينفك يتصاعد، فكيف ولماذا يعتزل؟!
“كيف”؟، كان جوابها واضحا وصريحاً في قصيدة اعتزالٍ أرادها الشاعر ذروة من ذراه، وسماها “وداعا أيّها الشّعرُ” ..
تحاول القصيدة بنفسها الرد على سؤال “لماذا” فتجتهد قليلاً، وتتركك لمدركاتك أنت كما قال الأستاذ عبد الكريم في معرض تأكيده على “حق المتلقي في إعطاء المعنى الذي يحسبه في الإبداع، وبالتالي مساهمته الفاعلة في صياغة النص”.. وأيضا كما أردفته بالقول من جهتي وما وافقني هو عليه عندما أكد أنه كثيراً ما يقف الشاعر نفسه حائراً أمام نصِّه متسائلا “من أين جاء؟!” ثم يقول “لا بد أنه جاء من أعماق أعماق اللاوعي”.
يؤشر لنا شاعرنا عن غربةٍ ما يبدو أنه يعيش فيها فيقول :
كأنّي ما عرفْتُ الشّعر
تَيّاهاً بِزَهْوتِهِ
ولا بَرَقَتْ على ظَلْمائهِ كَبِدُ
كأنّي لستُ مِن أهليهِ
ذاتَ ضُحىً،
أَيُنْكِرُ جِلْدَهُ الوَلَدُ ؟!!
أعتقد أن الأستاذ عبد الكريم عبَّر في اعتزاله عن حق الكبار في التمشكل مع الواقع المضطرب لدرجة ربما لا تستوعبها مرونة الشاعر والمفكر والفيلسوف، ببساطة لأنه تواقٌ بطبعه لواقع أسمى وأكثر نبلا.
بعد تلاوة صلاته الأخيرة “وداعاً أيها الشعر” انتقل شاعرنا للحديث عن أمور أخرى في الثقافة وسوريا وحمص، دون أن يترك لي حيزاً من المناورة أستطيع من خلاله العودة به إلى شعره، فهو كان قد حسم خياراته، تماماً كما كان صابراً جلوداً على أوجاعه التي تحدث عنها رغم كبرها، فبدت صغيرة على أطراف شفاهه وهو يلفظها بثبات وهدوء ..
كالجبل استقبلني، وكالجبل ودعني، مع قليلٍ من الابتسام، لكن بمصافحة قوية تخبرك بالكثير مما أحجمت عنه الكلمات والابتسامات.
حملت الكتب الثلاثة التي أهداني إياها شاعرنا الجليل، وسرت سعيدا لأنني كنتُ هناك.
*يزيد جرجوس .. كاتب من سوريا