رحلة إلى الجمال .. مراد داغوم

|| Midline-news || – الوسط …
.
كنت قد اكتسبت حب الاطلاع من تحريض أستاذي المرحوم “وليد قنباز” في المرحلة الثانوية والذي كان مُحبّاً لـ”توفيق الحكيم“، هذا التحريض الذي دفعني لالتهام كل كتب “توفيق الحكيم” التي احتوتها مكتبة المركز الثقافي بحماة في بداية السبعينات، فقرأت كل مسرحياته المتوفرة بما فيها مجلدين ضخمين: “مسرح المجتمع” و”المسرح المنوع“. وكانت المتعة تبدأ بعد انتهاء قراءة أي كتاب، أو فصل، عند التفكُّر بما احتواه.
سنة 1980، كنت في سنتي الثانية من خدمتي العسكرية، وكنت في الثالثة والعشرين من العمر، كنت كسولاً جداً في مادة هامة، بل رئيسية في كل جيوش العالم، وهي الرياضة. وكانت أكثر الأوقات متعة بالنسبة لي هي تلك التي أقضيها في مطالعة الكتب التي كنت أستعيرها من مكتبة القطعة، والتي كانت عبارة عن غرفة مستطيلة جداً ضمن مبنى الندوة الذي كان يتسع لعدد كبير من الكراسي والطاولات وجهاز تلفاز.
في تلك الآونة لم يكن الأمر يخطر ببالي، ولكنني اليوم، وبعد مرور حوالي أربعين سنة، تصيبني الدهشة وأتساءل: كيف لمكتبة قطعة عسكرية أن تضم كتباً فلسفية عامة، وكتباً فلسفية متخصصة، وفي فلسفة الفن تحديداً؟ كتبٌ كانت المصدر الأساسي لمعرفة واسعة وبداية طيبة جداً لدخولي إلى باب الفن من علم الفلسفة وأبوابها السبعة المعروفة.
كانت البداية بكتاب “قصة الفلسفة” – وِل ديورانت. شدني العنوان، فقلت في نفسي: قد يكون هذا الكتاب هو الدليل الذي سيسهل لي فهم الفلسفة، وكان ذلك، وأكثر. فقد وصلت بي محبة هذا الكتاب أن أمدد مدة استعارته لمرات لأنني كنت أكتب تلخيصاً لكل فصل منه. وعلى أسلوب ديورانت في الفهرسة التأريخية للمواد الذي عاينته فيما بعد بموسوعته الضخمة (قصة الحضارة)، قام في هذا الكتاب بتبويب فصوله بترتيب زمني أيضاً، مبتدئاً من الإغريق وصولاً لعصر “جون ديوي” كما وصف كتابه.
وكان يُقسِّم كل فصل إلى أسماء فلاسفة العصر المعني، ثم إلى كيفية تطرُّق كل منهم لمشاكل الفلسفة السبعة. قد تكون مشاكل (العمل، والأخلاق، والوجود … الخ) هامة، ولكن بالنسبة لي شدتني مشكلة “الفن” أكثر، واستغربت حينذاك أن تتضمن الفلسفة باباً بهذا العنوان، والذي غالباً ما تتم الإشارة إليه باسم “الجمال“. فرحت أنسخ آراء الفلاسفة واجتهاداتهم عبر التاريخ في موضوع “الجمال” إلى كراسة خاصة، بانياً قاعدة معرفة كانت تزيد متعة القراءة وتدفعني لطلب المزيد. و قمت فيما بعد بنقل محتويات هذه الكراسة إلى ملفات رقمية ما زلت أحتفظ بها في حاسوبي.
وهكذا، أنهيت “قصة الفلسفة” وأعدته للمكتبة واستعرت “مباهج الفلسفة” للمؤلف نفسه، وهو من جزئين، وكان له نصيب سابقه. انتقلت بعدهما إلى كتاب “علم الجمال” للإيطالي “بنديتو كروتشه” (1)، ثم إلى ” أرنولد هاوزر” (2) وكتابه الضخم الرائع: “الفن والمجتمع عبر التاريخ“، وكنت دائماً أوجز الأفكار الهامة فيه وأنسخها إلى كراستي. وعند انتقالي إلى دمشق، تولت مكتبة الأسد إشباع هذا النهم المتواصل من خلال قراءة عشرات الكتب في هذا المجال وكان أكثرها أهمية على الإطلاق كتاب: “مبادئ الفن” – روبن جورج كولينغوود (3)، وهو كتاب ضخم شامل، يزخر بأفكار فلسفية فيها شيء من التعقيد حول الفن والجمال والنقد الفني.
وعندما ابتدأ عصر الانترنت وعولمة الثقافة، صارت مصادر الويب باللغة الإنكليزية مصدراً لامتناهياً وكنزاً معرفياً هائلاً. أتذكر اليوم معاناتي عند محاولة الحصول على بطاقة استعارة خارجية من مكتبة الأسد، فأبتسم.
كان العامل المشترك بين أولئك المؤلفين هو تزاحم النظريات، بأسلوب التفكير الحيادي الذي لا يجزم، ولا يعتبر ذاته الحكم الفصل، ولا يحصر معرفة ما بذاته، وهذا الأخير هو أروع المبادئ التي تّذكي روح التعاون والتراكم المعرفي وصولاً إلى نتائج أكثر صحة من سوابقها، وهو ما أفتقده اليوم في كل ما أقرأه من آراء فنية في شرقنا الجميل، تُظهر بوضوح تشبثاً أجمل، بالرأي وبغيره.
هوامش:
(1) – بينيديتو كروتشه Benedetto Croce 1866-1952. فيلسوف إيطالي ومؤرخ وسياسيي، كتب في العديد من الموضوعات، بما في ذلك الفلسفة والتاريخ والتأريخ وعلم الجمال.
(2) – أرنولد هاوزر Arnold Hauser، 1892 – 1978. مؤرخ فني وعالم اجتماع مجري-ألماني ربما كان الماركسي الرائد في هذا المجال. كتب عن تأثير التغيير في الهياكل الاجتماعية على الفن.
(3) – روبن جورج كولينغوود Robin George Collingwood، 1889-1943. فيلسوف ومؤرخ وعالم آثار بريطاني. اشتهر بأعماله الفلسفية، بما في ذلك “مبادئ الفن”، والكتاب المنشور بعد وفاته “فكرة التاريخ”.
.
*(ملحن وباحث موسيقي – سورية)