العناوين الرئيسيةحرف و لون

دم العنزة .. سماء زيدان

اللوحة : الفنان العالمي "فان غوخ"

دم العنزة.. كان لجدتي طفل مریض، أصغر ذكور العائلة الكبیرة، جدتي بذرت عشرة أولاد وثلاث بنات، وتوفى لها ذكران. كانت ثمرة رحمها وفیرة، والظهر عفى كالأرض الخصبة. المیت من أولادها تبكیه ثم تحمل غیره.

ولد لها الذكر الأخير ملیح الوجه علیلًا، لا یكاد یشفى یومین أو يمر عليه عيد إلا ویصیبه داء جدید، حتى اهتدت بمشورة الجارات المسنات فى قریتها التي لم تكن تعرف بعد الكهرباء ولا الأطباء، إلى وصفة متوارثة لم یكتبها قلم! إرضاعه من ثدي عنزة فقدت للتو ولیدها! هكذا قالت النسوة العجائز، عنزة مكلومة بضرع محتقن ينز الحليب منه في فم الوليد ساخنًا!
كان الزمن حزينًا یموت فیه الصغار لأتفه الأسباب، ویموت الكبار من الكمد. لكن الشفاء كان هینًا والأسباب لا یهتم الناس لها. أتى الأب صاحب الأطیان والزرع الوفیر لولیده الذى حار في دائه أطباء البندر بالعنزة المكلومة، كانت منتفخة الضرع، فكانت جدتي تحمّمها وترعاها وتمسد ضرعها المحموم، ثم ترقد طفلها تحتها، لترضعه منها مباشرة أيامًا وشهورًا حتى شفى الولد وكبر واشتد عوده.
رفضت جدتي ذبحها وكانت توصي بها ولیدها وتسمیها له مداعبة “هي أمك من الرضاعة”.. ثم حدث أن هذا الولید فقد أباه وأصبح یتیمًا یكفله الإخوة والأعمام. وكأن الكمد في الدنیا متصل، وربما ارتشفه الصبي من الضرع مخبوءًا في الحلیب. لكن سفن الأیام ترسو مهما اشتد الموج. كبر الصغیر وأصبح زوجًا لزینب الجمیلة وأصبح أبًا، لكنه الأب الغائب مثل أبيه. تمتد خیوط الشمس ذهبیة عبر نافذة المستشفى المغلق، وتستقر أشعتها بحنان على وجه زینب الشاحب، ترقد في فراشها بلا حراك، أضناها الوهن وأرهقها دفع مولودها لساعات الأطباء یتجولون بالرواق. الممرضات یتهامسن بالقرب منها، طفلها راقد مستقر إلى جوارها.. ینتصف النهار وزینب لا تفیق، تهذي بكلمات غیر مفهومة. تبكي ثم تعاود النوم، الممرضات یأتینها بالسوائل یبللن شفاهها وشفاه ولیدها، یتبادلن نظرات الأسى ثم یتركنها ویذهبن لعملهن.

حل موعد الزیارة ضج المستشفى بالمهنئین. في الأسرة المجاورة ترقد الضحكات، تتسرب إلیها روائح الحلوى والورد مختلطة بالفرح وكلمات التهاني. یضیق صبرها بضحكات أب یزهو، یدفع بقطع نقدیة إلى الممرضات، يؤذن لوليده في أذنه الیمنى. تمضي ساعات الزیارة بطیئة وجسد زینب یأبى أن یفیق، تطفو روحها فوق جسدها الممدد بلا حراك تتأمله.. تنظر إلى ولیدها بإشفاق، النبض باهت كنبض ولیدها، یداها مكبلتان بطرف الغطاء، تتحرر روحها، تطوف كأنفاس زهر حول الفراش یثیر أهل الجوار فضول روحها الخفیفة، الجسد ساكن والروح تتجول هائمة بین الأسرة تندس بینهم وتضحك معهم، تقترب من فراش المرأة المجاور الصاخب بالفرح، ترتمي الروح فوق الأم المتدللة، تتلقى التهاني والقبلات معها، ترفع الأم صغیرها بحنان إلى صدرها. یبدو حلیبها ببیاض وجه زینب، یؤلمها صدرها فتتراجع لطرف الفراش، الولید بصدر أمه یسكن قابضًا بكفه الصغیر على أصبعها.
ترى زینب بوجه الأم الراضي أمها الجمیلة بمندیلها الأبیض، وثوبها الریفي الدافئ. تبدو سمرتها الناعمة كما هي حین رأتها آخر مرة. كانت ذاهبة ككل صباح بین رفیقاتها للمدرسة، عادت زینب بموعد الغداء لتجد النسوة المتشحات بالسواد یرقدن بمدخل الدار.. تتقلب زینب وتئن، یؤرقها صوت الممرضات بجوار فراشها یتهامسن. تتسلل هائمة حول الصغیر تتحسس الغطاء وتتحسس ولیدها، تتحسس یدیه وأرجله المشوهة ورأسه المنبعج مثل رأس عنزة وجسده المغطى بالشعر الكثيف، تعید الغطاء حوله ویمضي اللیل وجسد زینب یهذي بالحمى.
مع نسمات الصباح الأولى یأتیها زوارها، تشعر زینب بوخزات في ذراعها، كان بطنها یتمزق، تتلوى بالفراش، الزوار یتهامسون ویبكي الصغیر الراقد إلى جوارها مغطى الوجه والیدین، تحمله إحدى النسوة المتشحات بالسواد وتُحكم حوله الغطاء لتخفي وجهه وذراعيه فيزداد بكاؤه، تستفیق زینب تفتح عینیها، تنتفض تحمل ولیدها وتفك وثاقه وتدفعه إلى صدرها، یتفجر حلیبها بین شفتیه تنطلق أولى دمعات الأمومة حارة من عینیها، تقبل زینب صغیرها وتؤذن له بأذنه الیمنى تاركة الغطاء للزوار.
.

*سماء زيدان.. إعلامية وأديبة من مصر

تابعونا على صفحة الفيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى