حلب .. القدود .. اليونيسكو .. مراد داغوم ..

.
بفرح عظيم، استقبلنا نبأ إدراج اليونيسكو القدود الحلبية على قائمة التراث العالمي! فالقدود تشكَّل ما تتجاوز نسبته الـ65% من الغناءالسوري ككل؛ إذا يندر أن يخلو أي حفل طربي في سوريا من بعض هذه القدود.
وقد أخذت منظمة اليونيسكو على عاتقها حماية التراث العالمي بنوعيه: المادي، كالمباني العتيقة والكتب واللقى الأثرية وإلى ما هنالك، والنوع اللامادي الذي تندرج ضمنه الموسيقا والغناء. وبما أن القدود الحلبية في قلوب السوريين وأذهانهم، إن لم نقل عند الكثير من العرب أيضاَ، يكون إدراج اليونسكو له على قائمة التراث العالمي هو نوع من التقدير أكثر منه حماية بالمعنى الذي تنص عليه وثائق تلك المنظمة في هذا الخصوص. وهو أيضاً تذكرة سفر سياحي لهذا التراث على دروب الثقافة العالمية في هذا الكوكب النابض بالحياة، مثلماً تنبض الموسيقا حيَّةً في كل اجتماع للبشر توقاً إلى الحالة الأسمى للرقي الإنساني من خلال أدوات الفن أو الأدب.
كسوريين، نحب القدود الحلبية، ونتغنى بها في احتفالياتنا على مختلف أنواعها. فالصحيح والثابت أن القدود “الحلبية” هي سيدة هذا المجال من الغناء الشعبي، لأن سوريا غنية بقدود أخرى كاللاذقانية والحمصية والدمشقية، إلا أن القدود الحلبية أوسع انتشاراً على مستوى القطر وعلى المستوى العربي وأكثرها شعبية ومكانة عند أهل بلاد الشام.
ولأن الحدث عالمي، ولأن السوريين مشتاقون إلى الأخبار المفرحة بعد سنوات من تراجيديا الحرب، استقبل السوريون الخبر بفرح عارم، وانبروا يعبرون عن فرحتهم بالاحتفالات وبالحديث إلى مختلف وسائل الإعلام مشيدين بالقدود الحلبية كلٌ بطريقته وأسلوبه ومقدرته البلاغية والاستيعابية. رأيت أنه من الصواب أن نقارب الخبر من مصدره مباشرة، فعثرت على الخبر على موفع اليونسكو، وبحسب البلاغة الانكليزية لم يتجاوز الخبر عشرة أسطر تختصر كتباً ومؤلفات، بما يمكن ترجمته بالتالي:
نص الخبر على موقع اليونيسكو: ((القدود الحلبية شكل من أشكال الموسيقى التقليدية من حلب مع لحن ثابت. تُغنى لأغراض دينية وترفيهية، وتختلف الكلمات حسب نوع الحدث. يمكن للمطربين المتمرسين ارتجال كلماتهم وفقًا لما يحدث حولهم. من المعروف أنهم يستخدمون غناءً عميقًا ويصلون إلى الذروة أثناء الإمساك بملاحظة طويلة أو تكرار عبارة، وإرسال جماهيرهم إلى ما يشار إليه باسم الطرب، أو الابتهاج. تصف المجتمعات الحالة العاطفية التي يمرون بها عندما يصل فناني الأداء إلى هذه الذروة على أنها “سكر دون شرب”. يلعب الجمهور دورًا رئيسيًا في إلهام إبداع المؤدي. يرقصون تقليديًا على الموسيقى من خلال رفع أذرعهم وتحريك الجزء العلوي من الجسم. موسيقى القدود مصحوبة بفرقة موسيقية. يواصل الحلبيون عزف الموسيقى في أزقة وأسواق المدينة القديمة. تأثرت القدود بالتغيرات الاجتماعية مع احتفاظها بعناصرها التقليدية، وانتشرت أيضًا إلى أجزاء أخرى من المدينة. تمت إضافة كلمات ذات طبيعة غير دينية، تحكي قصصًا عن الحياة والحب والتقاليد والشرف، وأحيانًا تكون مأخوذة من الشعر الشعبي. تعتبر القدود جزءًا حيويًا من ثقافة حلب ويُنظر إليها على أنها مصدر للصمود، لا سيما أثناء الحرب. تنتقل المعرفة بشكل غير رسمي بين الموجهين والشباب، وبشكل رسمي من خلال المناهج الدراسية والبرامج والبرامج الإعلامية)).
كما تضمن الخبر فيلماً وثائقياً قصيراً من عشر دقائق، تجدون رابط صفحة الخبر مع الفيديو في آخر المقال. لم يكن اهتمام اليونيسكو بحلب جديداً، ففي آذار/مارس سنة 2017 عقدت المنظمة اجتماعاً في بيروت لتقييم الأضرار التي لحقت بالآثار التاريخية بما في ذلك القلعة والمدرسة السلطانية والسراي الكبير وسوق مدينة حلب القديمة، أحد مواقع التراث العالمي، ووضع استراتيجية لاستعادة حلب خلال عملية فنية وتنسيقية. وقد هدف الاجتماع إلى تحديد آليات التنسيق الوطنية القائمة، وإلقاء نظرة عامة على المبادرات الوطنية والدولية الجارية والمخطط لها، والتفكير في إطار عمل مشترك لإعادة تأهيل التراث الثقافي في حلب وصونه. شارك فيه ممثلون عن المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية، ومجلس مدينة حلب، ووزارة السياحة، ومديرية أوقاف حلب، والمنظمات غير الحكومية والجامعات. تم الاتفاق على أن توفر اليونسكو إطار عمل لتنسيق جميع جهود الإنعاش المرتبطة بالثقافة في حلب. يجري إنشاء وحدة خاصة لليونسكو في حلب لتكون بمثابة آلية تشاور. وقد حظي اجتماع بيروت بدعم (صندوق التراث الطارئ) لليونسكو.
لذلك، فإن اهتمام اليونيسكو بالتراث المادي كان يسبق الاهتمام بالموسيقا السورية، وقرارها عن “القدود الحلبية” هو نتيجة لاهتمامها بشكل عام بكل ما هو تراث ثقافي في أنحاء المعمورة. إن مقر حماية التراث التابع لليونيسكو موجود في باريس، وعندما تحدث العالم عن “ثقافة عالمية” كانت باريس تعيش حالة من “الترف الثقافي” تجاوزتها اليوم بمراحل. فهي إن وجدت في أعماق غابات الكونغو رجلاً أميّاً يضرب الإيقاع على طبلة صغيرة صنعها بيده من ثمرة جوز هند جافة، تستحضره إلى فرنسا وتنشئ على “تطبيله” البسيط شهراً احتفالياً -على الأقل- وتجعل منه نجماً لفعاليات ثقافية عالمية قد لا تنتهي خلال سنوات.
مع فرحتنا بالحدث، نتمنى أن تحافظ حلب على تراثها الموسيقي وتنشره مع اليونيسكو في العالم كله، كما نتمنى عدم اعتبار هذا الحدث فرصة لزيادة اعتبار “استهلاك وتداول” القدود شرطاً من شروط الذوق الفني وتفوقه، وألا تتوقف حلب عن أي إنتاج موسيقي آخر غيره وتكتفي به كما هي الحال منذ مئات السنين. فاليونيسكو قد لا تهتم بالمنتوج الفني المعاصر الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس، ولكن الناس في أنحاء الأرض يفعلون. والنشاطات الفنية العالمية التي تنشر المنتوج العالمي للغناء غير المعلب لا تتوقف على مدار السنة في كل بقاع الأرض، وتخصص لها احتفاليات تتفوق على مجرد إدراج نوع من الغناء ضمن “التراث” في خبر سينساه الناس بعد أيام.
.
*(مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا).
-رابط خبر إدراج القدود ضمن التراث العالمي من موقع اليونيسكو، يتضمن الفيديو الوثائقي القصير: https://ich.unesco.org/en/RL/al-qudoud-al-halabiya-01578
-رابط خبر اجتماع بيروت 2017 الذي عقدته اليونسكو حول تراث حلب الثقافي بشكل عام: https://whc.unesco.org/en/news/1639/