جدال الفيلسوف والفيزيائي .. (ترجمة حيّان الغربي)

هكذا تعرّضت سمعة برجسون إلى صفعة مدوية، ومنحت مجلة “التايم” آينشتاين لقب “شخصية القرن”. وعلى الرغم من أن هذه المبارزة افتقرت للتكافؤ، غير أنها ما زالت محطاً لتفكير الفلاسفة والعلماء، إذ لا يتعلّق الأمر بالسؤال الكبير حول ماهية الزمن وحسب، وإنما شكّل ذلك الجدال منعرجاً أساسياً في سياق فصل العلوم والعلوم الإنسانية إلى “ثقافتين” على حدّ توصيف الروائيّ البريطانيّ “سي. بي. سنو” في وقت لاحق.
كان آينشتاين ينظر إلى العلم بوصفه “الوليّ الأعلى للحقيقة” كما تقول “جيمينا كاناليس” مؤلفة كتاب “الفيزيائيّ والفيلسوف”، الذي تؤرّخ فيه لذلك الصدام بين الرجلين. أما برجسون، فقد أصرّ على أن العلم لا يملك الكلمة الفصل. تردف كاناليس: “لقد أثار صدامهما السؤال حول ماهية العلاقة بين الذاتيّ والموضوعيّ وحول إمكانية توصّلنا إلى معرفة تجمع بين الجانبين”. كان الفيلسوف قد سبق الفيزيائيّ إلى الانخراط في مسألة تحديد الزمن بفترةٍ طويلة، فقد نشر برجسون باكورة أعماله “الزمن والإرادة الحرّة” في العام 1889 حين كان آينشتاين ما يزال طفلاً في العاشرة من عمره. في بادئ الأمر، نافح برجسون عن فكرة مفادها أن العالم يعمل كالآلة، وفي سياق تحرّيه للتطوّر واجه ما أصبح يعتبره مفهوم الزمن الخاطئ في العلم.
تحدّد وجهة النظر هذه الزمن ضمن إطار المكان، فالساعة تساوي واحداً على أربع وعشرين من دورة الأرض حول نفسها. وفي حين أن ثمة فائدةً من الزمن بوصفه توقيتاً أو الزمن المنتظم، ولكنّه يفوّت الناحية الأهم في الزمن، ألا وهي المدة، كما يرى برجسون. فعوضاً عن الانقطاع عن الماضي، بالطريقة التي تنفصل فيها إحدى النقاط على المسطرة عن نقطة أخرى، فإن الحاضر منغمرٌ به. وقد طرح الموسيقى كمثال، ففي الموسيقى لا تتكوّن كل لحظة راهنة من نفسها وحسب، وإنما تتكوّن أيضاً مما سبقها. فمما قاله برجسون: “المدّة المحضة هي النموذج الذي يتقلّده تتابع حالات الوعي لدينا حين تسمح الذات لنفسها بأن تحيا عندما تكفّ عن إقامة الحدّ الفاصل بين حاضرها من جهة وحالاتها السابقة من جهةٍ ثانية”. توفّر أيلولة الوقت (الحاضر ينتفخ بالماضي الذي يمور فيه) مخرجاً من العالم المنتظم. وفي حين أن هذه المقاربة لا تنفي أهمية المادة، بيد أنها تضع الحياة خارج المادة بصفةٍ جزئية. فالمدّة هي التي تفسح مجالاً للجدّة، سواءً في نماذج الحياة التي تنشأ من التطوّر أم في التصرّفات التي تنجم عن وضع الإرادة الحرّة حيّز التنفيذ. يطبّق برجسون أشهر عبارةٍ مأثورةٍ عنه على كفاح الحياة مع العالم الماديّ، الذي تتلاحم معه بدورها: اندفاعة الحياة، فتصبح هوية الإنسان هي “التوليفة المؤقتة التي هي المدة” على حدّ تعبير “مارك سنكلير” في كتابه الصادر مؤخراً حول برجسون.
وبالنسبة لراوي “البحث عن الزمن المفقود”، كانت الذكريات التي أيقظها مذاق كعكة المادلين كفيلةً بمحو التوقيت، وقد تزوّج برجسون إحدى قريبات مؤلّف الرواية “مارسيل بروست” الذي كان إشبينه في حفل الزفاف. وتجدر الإشارة إلى أن برجسون نفسه كان كاتباً فذّاً إذ ظفر بجائزة نوبل في الأدب في العام 1927. وحتى قبيل استعار الجدل بينه وبين أينشتاين، جرت السخرية من برجسون بوصفه يروّج لطلاسم ميتافيزيقية! إن إجلاله للحدس (المقدرة التي تدرك من خلالها المدّة) على حساب الإدراك شكّل هدفاً دسماً لعالم المنطق. وكتب “برتراند راسل” في العام 1912 أن برجسون كان يعتقد بأن العالم هو “سكّة حديدية معلّقة، تلعب فيها الحياة دور القطار الصاعد في حين تلعب المادة دور القطار الهابط”. ومثله مثل رجال الإعلانات، اعتمد برجسون على “عبارات رنّانة ومتنوعة”. كما أردف راسل في كتابه “تاريخ الفلسفة الغربية” الصادر في العام 1945 أن لاعقلانية فلسفة برجسون “تناغمت بسهولة مع الحراك الذي أفضى إلى حكومة فيشي”.
لعلّه تعليقٌ قاسٍ حول يهوديّ رفض تلقّي معاملةٍ خاصة من الحكومة المدعومة من قبل النازيين. الزمن الحاضر، والماضي، والمستقبل كان ثمّة تبايناتٌ صارخةٌ بين أينشتاين وبرجسون، فقد كان الفيزيائيّ، ألماني المولد، داعيةً للسلام، وكان يأكل اللحوم حتى ما قبيل وفاته بفترة وجيزة، في حين أن برجسون لم يعدم الأسس الفلسفية لتبرير الدور الذي لعبته فرنسا في الحرب العالمية الأولى، ناهيك عن أنه كان نباتياً. وقد تمحور صدامهما في باريس بصورةٍ رئيسية حول نظرية النسبية الخاصة لدى آينشتاين، التي نسفت مفهوم الزمن الثابت في فيزياء “إسحق نيوتن”.تفيد النسبية بأن الزمن يتدفق في معدلات متباينة سرعةً أو بطئاً بالنسبة للمراقبين المتحركين بالنسبة إلى بعضهم الآخر كما يكون حالهم في الأغلب الأعم. علاوةً على ذلك، المكان ينضغط ويضيق أيضاً، مما يعني أن التزامن ليس مطلقاً، ومما يعني، على وجه العموم، أن المراقبين المتمايزين يشهدون أحداثاً منفصلة في المكان بترتيب مختلف. يتداخل الزمان والمكان معاً على نحوِ يشي بأن الماضي والمستقبل قد لا يقلّا واقعيةً عن الحاضر، تماماً مثلما هو القمر لا يقل واقعيةً عن الأرض، وهي وجهة نظرٍ تدعى أحياناً بـ: “الأزلية”.
وقد كتب أينشتاين بنفسه جملته الشهيرة: “إن هو الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل إلا وهمٌ ما انفكّ يواظب ويعاند لفرض نفسه”.
شكّل هذا تحدياً جوهرياً للفكرة المركزية لدى برجسون، الذي كتب يقول: “إذا كان الزمن ينتشر في المكان على هذا النحو، إذاً هو لا يدرك تماماً ما هو جوهريّ للتعاقب أو المدة طالما أنه يتدفّق”.
لم ينكر برجسون اكتشافات أينشتاين، إذ لا بدّ للفلسفة أن: “تخضع للتدقيق الدائم من خلال التماس مع العلوم الإيجابية” كما يؤكّد الفيلسوف، غير أنه تمسّك بأن كثرة الأزمنة النسبية ليست جميعاً على قدم المساواة من حيث واقعيتها، إذ لا يمكنها أن تطيح بالإيمان “الفطريّ بالزمن المفرد، الذي هو نفسه بالنسبة لجميع الكائنات وجميع الأشياء”، وفي الواقع، النسبيّة تؤكد ذلك إن تمّ فهمها بشكل صحيح. في معرض دفاعه عن هذا الرأي، أنكر برجسون نتيجة النظرية الخاصة التي تم شرحها من خلال “مفارقة التوأم”: فإذا بقي بيتر على الأرض بينما استقلّ بول صاروخاً متجهاً إلى الفضاء ومن ثم عاد، سيتقدّم بيتر في العمر أكثر مما يفعل بول.
وتقول النسبية الخاصة أنه كلّما تحرّك الشيء بسرعة أكبر بالنسبة لك تباطأ زمنه من وجهة نظرك. أما برجسون، فأصرّ بأن التوأمان، بعد لمِّ شملهما من جديد، سيكونان قد تقدّما في العمر بالمقدار ذاته، الأمر الذي ثبت أنه كان بمثابة “عقب آخيل” بالنسبة لبرجسون على حدّ تعبير السيدة كاناليس. يواصل معظم الفيزيائيين الاستخفاف ببرجسون ليس بسبب زلّة التوأم بصورةٍ رئيسية، وإنما لمحاولته الإفلات من العالم الماديّ.
في كتابه الصادر مؤخراً “نظام الزمن”، يشير “كارلو روفيلي” عالم الفيزياء النظرية الإيطاليّ، إلى الفيلسوف مرّةً واحدةً على محمل التفنيد، فقد أشار برجسون “مصيباً إلى أن الزمن التجريبي يتفوق على الزمن الذي كان الفيزيائيون يتحدّثون عنه من حيث خواصه” ولكنه “أخطأ إذ استنتج من ذلك أنه لا بدّ أن يكون ثمّة شيءٌ في عالم الواقع يفلت من قوانين الفيزياء”.الآن، في زمنٍ يتعرّض العلم للهجوم من معارضي التلقيح وغيرهم، لا تبدو روحانية برجسون بالنسبة للبعض موجّهةً على نحوٍ خاطئ وحسب، وإنما تبدو خطرةً أيضاً. تقول السيدة كاناليس أن أحد الفيزيائيين قد حذّرها قائلاً: “بأني كنت سأضع حداً لمسيرتي المهنية” إذا نشرت كتاباً يأخذ برجسون على محمل الجد. ومع ذلك، ما زال الرجل مهمّاً من ناحيتين، فتأثيره ما زال مستمراّ على المفكّرين الذين يعتبرون أن النظرة المادية قاصرةً عن فهم العالم بمفردها، بمن في ذلك روبرت شيلدريك، مؤلف كتاب “وهم العلم”. وحتى البعض، ممن لا يوافقون على أن العلم واهمٌ، ما زالوا يجدون في أفكار برجسون مصدراً للإلهام ويسعون إلى التوفيق بينها وبين أفكار أينشتاين.
“لويس دي برولي” أحد رواد فيزياء الكم، يقرّ ببرجسون بوصفه صاحب رؤيا تنبؤية، فقد كتب أن برجسون لو درس نظرية ميكانيكا الكم “فلا شكّ أنه كان ليلاحظ بسعادة أنه في صورة تطور العالم الفيزيائي التي تقدمها لنا تلك النظرية توصف الطبيعة في كل لحظة وكأنها تتردد بين احتمالات متعددة”.
وتسوق فيلسوفة العلوم، جنان إسماعيل، الحجّة بأن أي كائنٍ أو إنسانٍ أو أية آلةٍ يجمع/ تجمع المعلومات ويستخدمها/ تستخدمها سوف يتصور/ تتصور الزمن بوصفه عابراً والمستقبل بوصفه مفتوحاً.
تردف الفيلسوفة أن ذلك الزمن لا يقلّ واقعيةً عن “زمكان” آينشتاين الثابت رباعيّ الأبعاد. ثمة “انطباع بوجود نزاع يتمّ استبداله بجسر لردم الهوّة”.
تمسّك كلٌّ من المفكّرَيْن بموقفه بشدّة خلال مناظرة باريس، وفي وقتٍ لاحق بدا أن برجسون قد تبنّى أفكاراً أخرى حول بعض جوانب “المدة والزمن”، ولكنّه لم يتخلَّ يوماً عن موقفه الأساسيّ. أما أينشتاين، فخلال العقود اللاحقة تزحزح قليلاً عن موقفه السابق إذ أقرّ بأن الميتافيزيقا تلعب دوراً في العلم، ناهيك عن أنه قد ازداد قلقاً حيال تقصير الفيزياء في تقديم وصفٍ ناجزٍ للزمن.
كتب الفيلسوف “رودولف كارناب”:
“لقد أثارت لديه مشكلة الحاضر قلقاً جدياً، فالحاضر يعني شيئاً ما يختلف جوهرياً عن الماضي والمستقبل، ومع ذلك لا يحدث هذا الفارق الهامّ، ولا يمكن له أن يحدث، في الفيزياء”.
لعلّ الفيزيائيّ العجوز كان قاب قوسين أو أدنى من الإقرار بأن زمن الفيلسوف موجودٌ بالفعل في نهاية المطاف”.
-الزمن في مواجهة الآلة.. (المصدر: ذي إيكونوميست)
*كاتب ومترجم – سوريا
.
-لمتابعتنا في فيسبوك : https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews