مدونة

تحرُّش ..

جريمة تحرُّش ..

في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي ُعرضت عليَّ دعوى طريفةٌ من نوعها، تتلخص بتعرّض جارٍ سمجٍ بشكل دائم لإحدى جاراته معلّقاً على إحدى تفصيلات جسدها بتعليق محرجٍ وخادشٍ للحياء. ضاقت الجارة ذرعاً بسماجة الجار وقلة حيائه، فقررت أن تلتجئ للقانون لإيقافه عند حده بعد صبر طويل منها.

قررتُ وقتها أن أتوكل عنها في الدعوى رغم معرفتي مسبقاً بتفاهة النتيجة التي سنحصل عليها مقارنة مع الإزعاج والضرر اللذان سببهما لها جارها بسبب ضعف الوسائل القانونية وتواضع النص القانوني، إذ أني لم أجد نصاً قانونياً أتكئ عليه في دعواي هذه سوى نص المادة /506/ من قانون العقوبات السوري التي نصّت على أن: “من عرض على قاصر لم يتم الخامسة عشرة من عمره أو على فتاة أو امرأة لهما من العمر أكثر من خمس عشرة سنة فعلاً منافياً للحياء أو وجّه إلى أحدهم كلاماً مخلاً بالحشمة عوقب بالحبس التكديري ثلاثة أيام أو بغرامة لا تزيد عن خمس وسبعين ليرة (أصبحت خمسمائة ليرة وفقاً للتعديل الذي جرى بموجب المرسوم التشريعي رقم 1 الصادر بتاريخ 3/1/2011 والذي عدّل بعضاً من مواد قانون العقوبات) أو بالعقوبتين معاً”.

بنتيجة البحث القانوني لم أجد في القانون السوري جرماً يسمى (جرم التحرّش) وإنما يعاقب فقط قانون العقوبات في مواد متفرقة من نصوصه على الأفعال التي تتعرّض للآداب والأخلاق العامة دون إطلاق عبارة (تحرّش) على أي من هذه الأفعال، فكانت المادة /506/ هي المتكأ القانوني الوحيد لي، إضافة إلى ما استقر من اجتهاد محكمة النقض السورية التي قضت بأن: “جملة (من عرض على قاصر لم يتم الخامسة عشرة) الواردة في المادة لا يُقصد بها قصر المعاقبة على تحرّش بالقاصر من الذكور دون الإناث، وإنما تشمل كلمة قاصر هنا الذكور والإناث على السواء.  وهذه المادة لا تعاقب على التحرّش بالإناث إطلاقاً مهما كان عمر المتحرَّش بها، وعلى المتحرّش بمن لم يتم الخامسة عشرة من الذكور”. للأسف كانت سيرورة جلسات المحاكمة تتخذ شكلاً كوميدياً، إذ أصرَّ القاضي على معرفة الكلام الذي وجهه المدعى عليه لموكلتي بالتفصيل البذيء مبرراً ذلك بضرورة إحاطته بالأمر حرفياً حتى يتمكن من الحكم في الدعوى التي ينظرها، وعندما باحت له موكلتي بمكنوناتها ولبّت مطلبه لم يتمالك نفسه من الضحك بصوت عالٍ، ولم يستطع أن يمنع نظرة فاحصة أفلتت من عينه علناً باتجاه التفصيل الجسدي لموكلتي الذي استهدفه المدعى عليه بعبارته المسيئة، ولم تفلت تلك النظرة الفاحصة من راداراتي، الأمر الذي أربك القاضي حين تيقن من معرفتي سر تلك النظرة.

انتهت المحاكمة بتقريع شديد اللهجة من القاضي للمدعى عليه، والحكم عليه بالشق المالي فقط من العقوبة وهو الغرامة خمس وسبعون ليرة سورية فقط لا غير! ومع ذلك اعتبرتُ ذلك نصراً لموكلتي لعدة أسباب أولها: تنها لم تسكت بذل وتستكين لتحرشات ذلك التافه، بل فضحت سوء أخلاقه على الملأ. وثانيها: ان العقوبة حتى لو كانت مالية وتافهة إلا أنها نقطة تسجل في السجل العدلي للمدعى عليه، وثالثها: اني اعتبرتُ أننا (أنا وموكلتي) قد ألقينا حجراً في مياه راكدة، وكسرنا الصمت والتعتيم المفروض اجتماعياً على مثل هذه الحالات، فمن أبرز الإشكاليات التي تواجهها النساء في المجتمع السوري في مثل هذه القضايا (قضايا التحرّش) انتشار ثقافة لوم الضحية التي تقتضي تحميل الضحية مسؤولية التحرّش الذي تعرّضت له بذريعة الملابس التي ترتديها، أو اختلاطها بالرجال في مواقع العمل أو الدراسة، أو تفاصيل معينة في جسدها لا تستطيع إخفاءها، أو بسبب عدم ارتدائها للحجاب.

كل ما سبق ما هو إلا أعذار واهية غايتها في الحقيقة تبرير فعل التحرّش وتبرئة المتحرّش من فعله، وبسبب هذه الثقافة المهيمنة على المجتمع وبسبب خوف الضحية من إلقاء اللوم عليها من قبل هذا المجتمع، إضافة لعدم وجود آلية واضحة وسلسة لتحريك شكوى التحرّش، ناهيك عن صعوبة إثبات واقعة التحرّش بحد ذاتها فإن الضحية غالباً ما تلوذ بالسكوت والصمت المذل ولا تحرّك ساكناً اتجاه المتحرش. كما أن ثقافة الضحية ووعيها وسعة مداركها وعمرها هي جميعاً عوامل مؤثرة في موضوع إقدامها أو إحجامها عن الشكوى.. ويزيد الأمر سوءاً ضعف الرادع القانوني في قانون العقوبات السوري أو في المنظومة القانونية السورية ككل على هذا الصعيد تحديداً.
وهذا أول ما نكتشفه عند قراءتنا لنص المادة /506/ عقوبات آنفة الذكر، والأمر الملفت هنا أن المشرّع السوري حتى الآن لم يقم بسنّ قانون خاص لمكافحة التحرّش رغم التزامه دولياً بذلك، فقد نص التعليق العام رقم 23 الصادر عام 2016 عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة المتعلق بالحقوق في المجتمع على أنه: “يقع على عاتق الدول الأطراف (من ضمنها سوريا) التزام أساسي بضمان الوفاء بالمستويات الدنيا من هذا الحق، وأنه يترتب على الدول في هذا السياق الالتزام بتضمين قوانينها تعريفاً للمضايقة في مكان العمل يشمل التحرش الجنسي”. وبالتالي فإن الاكتفاء بما ورد في قانون العقوبات لا يفي بالغرض لتجريم فعل التحرش بمعناه الواسع، خصوصاً أن المبدأ العام هو “لا عقوبة دون نص قانوني”.في حين نجد أن المشرّع المصري قد قام بتعديل قانون العقوبات سنة 2021، فقام بفرض عقوبة رادعة على المتحرش. إذ نص في المادة /306 مكرر أ/ من قانون العقوبات على أنه: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تتجاوز أربع سنوات، وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد عن مائتي ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من تعرض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأية وسيلة بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية أو الإلكترونية، أو أية وسيلة تقنية أخرى”. ورفع مقدار العقوبة في حال تكرار الفاعل لجرم التحرّش، كما قام بتعريف التحرّش تعريفاً واضحاً ومفصلاً في المادة / 306 مكرر ب/.وكانت المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة قد وضعت تعريفاً واضحاً للتحرّش بأنه: “أي فعل يُراد به الحصول على منفعة جنسية دون موافقة الطرف الآخر سواء بالكلمات أو الملامسة أو بالإشارة، سواء كان الفعل علانية أو سراً”. ونلاحظ على هذا التعريف والتعريف الذي أورده المشرّع المصري أنهما وضعا الأمر في نصابه بشكل واضح دون تحميل الضحية وزر التحرّش بسبب ثيابها أو تفاصيل جسدها أو اختلاطها على غرار ما يحاوله البعض بغية تضييع مسؤولية الفعل مروراً بتبريره وانتهاءً بتبرئة الفاعل.أخيراً فإني أرى أن علاج هذه الظاهرة القميئة يكون بالتصدي لها من خلال رفع مستوى الوعي حولها، واعتبار واقعة التحرّش (أياً كان شكل هذا التحرّش) انتهاكاً خطيراً بحق الضحية لا ينبغي السكوت عنه. كما لا ينبغي التنازل عن الشكوى بعد تقديمها، مع ضرورة التركيز على حملات التضامن التي تدعم نفسياً أية ضحية تحرّش، وتشجع الحالات الصامتة على البوح والشكوى، وهذه الحملات يمكن لها أن تأخذ صوراً عديدة سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها من الوسائل الإعلامية المسموعة أو المقروءة أو المرئية، أو عبر ورشات عمل متخصصة، وذلك كله بهدف تحويل القضية إلى قضية رأي عام، وصولاً إلى دفع المشرّع للتحرّك وسن قوانين واضحة وصارمة تجرّم هذا الفعل.
.

*محام ومستشار قانوني- سوريا

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى