إضاءات

تأملات في كتابة القلق – (2) … بوزينون الحكيم

 

تأملات في كتابة القلق … جزء 2
إن الإيمان الدّيني التقليدي الذي بدأ بالتصدع في الغرب في مناخ التنوير وتباشير الثورة الصناعية، وما واكبها من صعود مدارس ومذاهب فلسفية، ومن علوم تطبيقية، وصولاً إلى حربين دمّرتا أوربا وأجزاء من العالم مرّتين، وسبّبتا الآلام والمجاعات والتشرد للشعوب المستضعفة والمهزومة والمنتظرة حصّتها من العدالة على مقاعد محكمة الغيب. هذا الإيمان الذي استهلك حضوره المقدّس على مدى قرون عاد إلى رشده في أوربا، بإيقاظ القلق الوجودي الأثيني، بعد أن جرّمه وحرّمه الأمبراطور البيزنطي جوستنيان الأول عام 529 ميلادي، وأغلق أكاديميات الفلسفة في أثينا، ومدارس الفلسفة في الإسكندريّة، فكان حصاده غرق أوربا في ظلمات القرون الوسطى نحو عشرة قرون، والحصاد ذاته قد تكرّرفي المشرق والمغرب الإسلامي بفتاوى التجريم والتحريم، وماتزال سارية جارية إلى الآن، بزعم أن المنطق الفلسفي ينكر أو يشكّك بمعجزة الوحي والتـّنزيل الإلهي! ويدعو إلى الهرطقة والانحراف عن جادة الصواب.

هذا الهجوم الديني المتشنج على الوجودية والقلق الوجودي يستحيل فهمه خارج “مشروع” الايديولوجيا الدينية، التي لم تستفد من أخطاء الماضي، وتتمنّع على فهم هذا المنتج الفلسفي الأوربي، وتشن عليه حرب التـّسفيه والإغواء والعدوانية، وتتّهمه بإثارة النّزاعات والحروب وبالتـّرويج لفائض القوة الغاشمة، متجاهلة تقاعسها ونكوصها المعرفي وغرقها في سجالات فقهية، و”عنعنات”لاتنتهي حول قضايا لاتثمن ولاتغني، قضايا هي في كثير من الأحيان من البدهيات، إن لم تكن من المنفـّرات للوعي والوجدان.

ولأن الفلسفة عدوّة الإيمان الدّيني ومفسدة العقل، فمن صالح الأعمال استسهال الهجوم عليها، واستنفار قاموس القدح والشتائم والسّباب تحت تلك التّهمة، دون أن يكلـّف الفاعل نفسه جهد القراءة وفهم هذا العدوّ اللدود-الفلسفة،  وفلسفة الوجود على وجه التحديد.

تأملات في كتابة القلق

إن سيزيف والموت السعيد وطاعون ألبير كامو وغريبه، بملامح مرسو الحيادية، الخاوية من تعابير مقروءة وهو ينتظر حبل الإعدام، وغرباء بيكيت في انتظار غودو، والحوار العبثي بين أبطال مهمشين مهشمين، ينتمون إلى الوجود الحقيقي الأصيل، الذي لايتحقق وفق “هيدغر” إلا بتحمل الإنسان لمسؤوليته واختياراته، واتخاذ القرار بوعي تام الظروفَ المحيطة به،والحريّة التي تفسح للإنسان حيّزاً وخصوصيّة تولـّد لديه القلق، الذي هو الوسيلة التي تعرّفُ الإنسان حقيقته وحقيقة الوجود الذي يلفـّه.

إن هذه الومضات اللامعة في لوحة القلق الوجودي، الجديرة بالتأمل والدراسة، غالباً مايقابلها القيّمون على الإيمان الديني بالتـّوصيف المسطّح والعبارات الخامدة، والاكتفاء بتصنيفها بين متهافتة ومخرّبة، ومتشائمة ومتفائلة، ومؤمنة وكافرة!

ختاماً: إن الاختيار بين إرادة متفائلة وبين عقل متشائم ليس المعادلة العادلة والوحيدة، فما بينهما حياة جديرة بالاحترام، ووجودٌ عظيم في حركة دائمة.
.

*شاعر وكاتب – سوريا

.
صفحاتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى