بيان قسد .. قراءة موضوعية .. يزيد جرجوس

صدرت يوم (18 نيسان الجاري) مبادرة – بيان عن “الإدارة الذاتية” لما يُسَمّى “قسد” عبر طرح سُمِّيَ “مبادرة الإدارة الذّاتيّة حول الحل في سوريا”، وجاءت في (9) نقاط أجد أنّه من الواجب ولأهمّية التّطورات الحاصِلَة في الإقليم وخاصّة في الملف السّوري التّركي ومناطق شرق وشمال سوريا أيضا في مواجهة التّواجد الأميركي غير المشروع هناك، ولأنّه لا بد من أخذ آراء كل السّوريين في المسائل السّوريّة، لا بد من قراءة تلك المبادرة ومحاولة فهم نقاطها وما يختبئ خلفها وفي مضامينها.
أكدت “المبادرة” في مطلعها على أنّها تأتي على “أساس وحدة البلاد كأساس” ولكنّها تُكمِلُ هذه الفكرة لتصل للحديث عن “نظام لا مركزي وديمقراطي” وفي هذا تناقض واضح مع مطلعها، وفيه أيضا غمز بالكلمات “المفتاحية” التي تُحِبُّ الدّول الغربيّة والمؤسّسات “الأممية” سماعها. أمّا التّناقض بين “اللامركزي” وبين وحدة البلاد، فيُمكِنُنا رَدُّهُ لأمرين، أولهما التّجارب القريبة في العراق مثلا، مع تقارب التّركيبة السّكانيّة والسّياسيّة لبلدين هما بالأساس من مجتمعٍ عربيٍّ واحد (العراق وسوريا )، وثانيهما هو فكرة لا بد من إعادة التّأكيد عليها عند كلّ استحقاق تُطرح فيه هذه العناوين “البرّاقة”، فالنّظام الإداري في سوريا هو نظام لامركزي بالفعل، ولديه قانون إدارة محلية متطور جدا وعصري، ومن هنا يبدو أنّه لا معنى لِلمطالبة بما هو موجود أصلا، إلا إذا كان الكلام ينطوي عما هو أبعد، فالنّقطة الثّالثة من المبادرة تعود للدعوة إلى “إدارة ذاتية تحقق إشراف المواطنين على تسيير أمور مناطقهم، لتكون مرتكزا للتوصل إلى حل في سوريا” إذا فالمسألة تصل حد الترويج لتجربة “قسد” وتعميمها على المناطق السّوريّة، فماذا سنظن بمثل هذا الطرح؟! وإذا قارنّاه مع الدّستور العراقي وتلك المساحات المبالغ في مرونتها التي أعطاها لما سماه “الأقاليم” وأوصلتنا للحديث عن “الفدرلة” و”صلاحيات الأقاليم بالتّصويت على الانفصال”، علما أنّ أهم ما يمكن وضعه على طاولة النِّقاش الواعي هنا هو حقيقة أنّ الفدرلة وتوزيع الصّلاحيات السّياسيّة وُجِدَت لِلجّمع والتّوحيد بين المكونات الجغرافية البشرية غير المُتَّحِدة، وليس على العكس من ذلك لتفتيت المُجتمع الواحد المُكَوِّن لدولة صغيرة مثل سوريا.
في نفس سياق المؤشرات الهدّامة، تتحدث المبادرة في نقطتها الرّابعة عن “توزيع الثروات بشكل عادل” وهو طرح أيضا يوحي بالرَّغبة في الاستحواز على خيرات مناطق الأمر الواقع التي وضعت “قسد” يدها عليها مستفيدة من الأزمة السّورية، وهذا بحد ذاته طرح مريب ويتناقض مع مفاهيم الوحدة الوطنية، فالثّروات الطّبيعيّة في أي بلد هي ملك لكل الشّعب، وتُستَخدَم في التنمية المتوازنة بين المناطق وفق انسيابية الإدارة المحلية التي توزع الثروة من المركز، وليس من خلال نظام الجباية من الأطراف الذي كان متبعا قبل الدولة الحديثة، فما يحتاجه السّوريون هو المزيد من تطوير دولتهم ومؤسّساتِها وعقليتها الإدارية، وليس الخطف فيها خلفا إللى زمن التّحاصُص على الموارد الطّبيعيّة. ثم إن الدّولة السّورية سعت على مدى عقود طويلة حتى لتوزيع الموارد البشرية لتعم كل المناطق والمحافظات، فكانت وزارة التّعليم مثلا توفِد إلزاميّا كوادرها إلى المحافظات والأرياف الأقل تقدما من حيث التّعليم ليقوموا هم برفع مستوى التّعليم ومحو الأميّة في تلك المناطق، ولم يكن ثمّة بلدة سوريا تَضُنُّ بأبنائها لترسلهم على خريطة الوطن السّوري، لأنه وطن ومجتمع واحد، كما أنّه لا يمكن مثلا تخيل منطقة ما تمتلك هطولات مطرية ومياه جوفية وافرة، وهي تطالب بالاستحواذ على كميات أكبر من مياه الشُّرب التي توزعها الدّولة على كل مدينة وقرية وحي، بسبب ذلك.
في نقطتيها الأولى والخامسة تطرح المبادرة فكرة “الاستعداد لِلِقاء الحُكومة” و”استعداد الإدارة الذّاتية لاحتضان النّازحين” وهنا نلاحظ أيضا رغبة من قبل مُعِدّي المبادرة للتّعامل بنديّةٍ كيانيّة مع الدّولة، إن لجهة اللقاء، أو لجهة الدّور، وهذا كلّه وإن كان ظاهِرُهُ يَستخدِمُ كلاما يمكن أن يُصَنَّفَ على أنّهُ “إيجابي” ولكنّ السّياسة لم تكن بيوم من الأيام معنية بالظّاهر المُعلَن، إلا بقد ما يحتويه من باطِنٍ مقصود، لذلك يَصعُبُ على مواطن سوري أو صاحب قرار أن يقرأ تلك الإيجابيّة في كلام المبادرة، دون التّنبه والتَّوجّس من المعاني المُستَتِرة خلفَها، خاصة وأن “قسد” هي كيان غير مشروع.
في النّقطة السّابعة من المبادرة يتم طرح المسألة التّركيّة حامية الوطيس اليوم وعلى عدّة صُعُد، أولها المواجهة التّركية مع ما يُسَمّى “قسد” وثانيها التّقارب التّركي مع سوريا، والبدء فعلا بإجراء حوارات جديّة برعاية وترتيب روسي لحلحلة الوضع المتأزم بين البلدين، والذي أكدت الحكومة السّوريّة من أعلى مستوياتها أنها لن تكون إلا على قاعدة “الانسحاب التركي من جميع الأراضي السّوريّة ووقف دعم الإرهاب” ما شكَّلَ قلقا مضاعفا لقسد من أن تستعيد الدولة السورية قبضتها على الجغرافيا المنفلتة منها، وأن يتم ذلك بالتّوافق والتّعاون بين سوريا وروسيا وتركيا بحيث لا يبقى لتلك القوّة السّاعية للحصول على مشروعيّة ما، أيُّ مساحة جيوسياسية للتحرّكِ من خِلالها.
تقول المبادرة أنّهُ “لا يمكن السّكوت عن الممارسات التُّركيّة الهادِفة لتغيير التّركيبة السّكانيّة للمنطقة” في كلام أكثر ما يثيره بالحقيقة هو التّندُّر على محتواه الذي تقوم “قسد” نفسها به تماما في المناطق التي سيطرت عليها، ومازالت تضع يدها على المؤسسات الحكومية، وخاصة التّعليمية وتُمارِس “التّكريد” بديلا عن “التتريك” الذي تنتقِدُهُ. في هذا الإطار تستبدل المبادرة التّوجه للدّاخل السّوري عبر التّراجع عن الخطوات التّفتيتيّة التي اتّخذتها، بالغمز للخارج ومحاولة استدراجه أو ملاطفته عبر طرح العناوين التي تعنيه ويُحِبُّ سماعها، فتقول في نقطتها السّادسة أنّها “ملتزمة بمحاربة الإرهاب” لتعطي الإدارة الأميركية تلك الذريعة التي تستخدمها في تبني الدّفاع عن دعمها لذلك التنظيم، ثم تفرد نقطة للحديث عن التزامها “بقرار مجلس الأمن 2254 وجميع القرارات الأمميّة ذات الصّلة” في غمز مضاعفٍ للإدارة الأميركيّة ومحاولة استرضاء لا ريب فيها، فالسّوريون يتوقع منهم إعلان انصياعهم لدستور بلادهم وقراراتها، وليس لمقررات “أمميّة” مشكوك أساسا بأمميَّتِها تلك من مُعظم شعوب العالم التي ترزح تحت نير الظّلم والاستغلال أو الاحتلال والحروب، دون أن تسعى تلك المؤسَّسات الدّولية لوقف ذلك، مع اكتفائها بإرسال “المساعدات الإنسانية”.
كان التّزامن لافِتا بين البيان وبين استجواب المبعوث الأميركي السّابق في سوريا (جويل ريبورن) بنفس اليوم (18 نيسان) أمام لجنة العلاقات الخارجيّة، والذي كان مفاده تراخي قبضة أميركا، وتشديدها فقط على دور ووجود قسد، التي يبدو أنّها أصبحت الحجر الوحيد المتبقي في اليد الأميركية في سوريا.. حيث ذكر أنّ “الإدارة الأميركية أبدت تساهلا تجاه الحكومات التي بدأت بالتّوجه إلى دمشق” وتابع نقلا عن الحكومات العربيّة أنها “لم تتلقى تهديدات من الإدارة الأميركية” وأضاف بأنّ “الإدراة تحتفظ بأهميّة قسد في محاربة داعش”، وهنا تحديدا يبرز هذا التّطابُق في الطرح بين مبادرة “قسد” وبين الكلام الأميركي الذي تسارِعُ “قسد” للتّأكيد على أنّها “عِندَ حُسنِ ظَنِّهِ” وذلك ضمن قراءتها للواقع المُتَغيِّر، وتعبيرا عن حالة الخوف الجدّي لديها من تلاقي نيّات سوريا وإيران وتركيا مؤخرا ضمن المساعي والرّعاية الرّوسيّة لحلحلة الملفات المُجَمَّدة في سوريا ميدانيّا وسياسيّا، والتي يحتل موضوع الشّمال والشّرق السّوري محل حجر الرّحى فيها، خاصّة وأنّه بقدر ما تبدو سوريا في حاجة ماسّة لاستعادة أراضيها على هذه المحاور، فإنّ تلك الأوضاع المتوترة بدأت تُشَكِّلُ مع عامل الزمن ضغطا متزايدا إن على التواجد الأميركي غير المشروع عبر عمليات متصاعدة للمقاومة، أو على الصّعيد الدّاخلي التّركي مع تفاقم الأوضاع الاقتصاديَّة والانقسام المجتمعي والسّياسي الذي تُحَمِّلُ كلّ أطرافِهِ مسؤولية تدهور الأوضاع لسياسة حزب العدالة العدوانيّة تجاه سوريا، وإذا أضفنا إلى كل ذلك تلك الرّغبة المُشتركة لدى دول الإقليم من سوريا إلى العراق إلى إيران وتركيا، في وأد أي مشروع انفصالي كردي يُهَدِّدُ سلامة وأمن ووحدة أراضي كل هذه الدّول، يُمكِنُنا فهم التّمسّك الأميركي بالقوة الكرديّة المتمرِّدة في سوريا (قسد) واستنجادها هي به، بمقابل التّوجه التّركي للسّير في الاتّجاه المعاكس لذلك، وخاصّة في إطار التّسابق مع الحكومات العربيّة التي بدأت تحث الخطى تجاه دمشق التي يبدو أنّ ثِمار صبرها قد أينعت أخيرا وحان وقت قِطافِها.
إن عودة العرب إلى سوريا لا يُمكن إخراجها عن سياق طويل من الجّهد الرّوسي والصّيني في سبيل ذلك، والذي أتت عدة مؤشرات واضحة مسايرة له، تؤكِّدُ حرص القوتين الكبيرتين على سلامة دول المنطقة وعلى حسن العلاقات فيها، فالمصالحة السّعوديّة الإيرانية برعاية الصّين تكاد تكون أبرز تجلّيات ذلك، فيما أتى تصريح وزير الخارجيّة الرّوسي منذ أيام باعتبار نموذج تقسيم السّودان يشكل إنذارا خطرا لروسيا عندما قال “السودان كان دولة موحدة قبل تقسيمها، والزملاء الأميركيون جعلوا ذلك التقسيم أولوية لهم، وطلبوا منا إقناع الرّئيس البشير وقتها بالموافقة على حق انفصال الجنوب، بينما دافعنا نحن عن حق الشعب السوداني في تقرير ذلك” محملا الحكومة الأميركية “مسؤولية ذلك التّقسيم”.
إنَّ كُل هذه المعطيات تضع وبشكلٍ واضحٍ ما يُسمّى بـِ “قسد” في مركب آخر غير مركب التآلف الآيل للتّشكّلِ بين دول المنطقة برعاية القوى العالميّة الجَّديَّة في صِناعة الاستقرار على مُستوى الخريطَة الأفروآسيوية، لِما في ذلك من مصالح عميقة لكل هذه الدّول من أجل تحقيق نهضة جماعية عبر تشابك رايات التّنمية والشراكة عوضا عن اشتباكات الصِّراعات المُستدامة التي ما لَبِثَ الغرب يؤجِّجُها ويبتكِرُها ويَستَثمِرُ فيها، لذلك نجد أن سلوك ذلك التّنظيم غير المشروع وطموحاتِه التي عبَّرَ عنها من خلال “مبادرة الإدارة الذاتية”، يضع مجددا بيضه كله في سلّة الأميركيين ويُحاوِلُ دون كلل الاستعانة بهم وتقديم أوراق اعتمادِه لهم، في مراهنة جديدة ولكنّها قد تكون الأخيرة هذه المرة.
إقرأ أيضاً .. المُصالَحَة .. حَقيقَةٌ مَوضوعيَّة ..
إقرأ أيضاً .. سلمان رشدي وفتنة “الرأي المشروع” ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب