العالم بيتنا الكبير … بوزينون الحكيم

بيتنا العالم الصّغير
في السّجل الأركيولوجي للإنسان العاقل يقدّم لنا الكهف نفسه المكانَ والمقرّ للإنسان الأوّل، منه انطلق صيّاداً وملتقطاً الثّمارَ وأسباب عيشه، الكهف– البيت الذي احتضنه، والحيـّزُ المكانيّ الذي وفـّرله الأمان والدّفء والحلم. قبل ذلك كان المكان مجرّد سجلّ بيولوجي وجيولوجي لعصور وحقب طويلة، كان حيّزاً حيادياً في غياب أثر إنسانيّ وعلامات ولغةٍ إنسانية تمنحه سمْتاً واسماً وهويّة، بالنشاط الإنسانيّ تأنْسنَ المكان، باللغة التّصويريّة التّشكيليّة؛ بما تختزن من إيحاءات ورموز ومعانيَ ودلالات وَسَمتْه، وَسمتْ هويّته ووسمتْ الإنسان ككائن متميّز عن الكائنات الأخرى. اللّغة على اختلافها واختلاف أساليب ووسائل تعابيرها أداة تَواصل بما تحمل من أحاسيس ومشاعر وانفعالات (ولانستثني لغة الإشارة)، تمنح المكانَ سيمياء وهويّة واقعيّة وأحياناً هويّة مجازية تضفي عليه خصوصيّات وتميّزاً وحضوراً جديداً في النّطق والتّصوّر، فتولّد فيه جاذبيّة نابضة بالحياة، ويسري ويمتزج الزّمان بالمكان في وحدة كيانيّة قابلة للتّحديد وللقراءة والاستقراء. بداية ًكان الصّوان وشظايا عظام الحيوانات قلماً يحفر في جدران الكهوف، ودماءُ الحيوانات وألوان عناصر التراب حبراً، على جدران كهفه بأدوات بدائية ولغة تصويرية بسيطة عبّر الإنسان البدائيّ عن واقعه ومعطياته واقعه وعن أفكاره وانفعالاته، وعن عالم مبهم خفيّ تزدحم فيه الصور والأخيلة وتصوّرَه للآلهة خالقة العالم، وبمجسّمات الصّلصال والحجر جسّد تصوراته للآلهة ولقوى الطبيعة وكائناتها، ثم استمرت وتطوّرتْ نزعة التّصوير والنّحت والحفرفيما بعد إلى منتّج جماليّ، فطبعتْ المراحل التّاريخيّة بطابعها الخاص، وأضحت تشكيلاً فنّياً جمالياً يرمز للآلهة وأنصاف الآلهة، وبطبيعة الحال ارتفعت بيوت العبادة (الهيكل) والبيوت والمعالم العمرانية الأخرى.
في هذا السّياق تجدر الإشارة إلى أنّ لفظة هيكل مفردة سومريّة (هِيجال باللهجة المصرية) وتعني الجسد البيت/ موطن وسكنى الرّوح، فاكتسبت بيوت الآلهة مجازاً ودلالة المعنى: الهيجال – الجسد كما هو بيت الرّوح فبيت العبادة هو أيضاً بيت الآلهة، ومنه صار الهيكل اليهودي أول معبد اكتسب اللّفظة والدّلالة. إنّ البيت ـ متجاوزاً التأ طير في شكل محددةـ هو الخلية ُالمكانية الأولى، الرّاسخة في الزمان، والمكانُ الحميميّ الذي تستقرّ فيه أجسادنا في حالة عميقة من الاسترخاء والهناء، هو ملاذنا ويومياتنا وشريك أعمارنا وإنجازنا ونشاطنا الجسدي والعقلي بمحبة منشودة، هو شريك الأملٍ والتأمّل العميق في الحياة والإنسان والكون.
في البيت يتشارك البشر مشاعر حميميّة، وخارجه يتواصلون وينسجون علاقات إنسانيّة منتجة في أماكن هي بالنسبة إليهم البيت الثاني؛ البيت (المعبد) كملاذ هانئ للروح، والبيت (الجامعة أو المدرسة) أو (مقرّالعمل) والبيت (نادي الثّقافة أو مرابع الاستجمام واللقاءات السعيدة)…إلى نماذج مختلفة أخرى من البيوت، بما تحوز من واقعيّة وتكتنف من رمزياتٍ ودلالات وذكريات تمنح المرء حصة من السعادة. بالإنسان والفعالية الإنسانية يُمنح البيتُ – المكانُ اسماً محدّداً، فيه تُنسج وتتواشج الأحداث والعلاقات بين البشر، وإليه تنتمي وبه تسكن الذّكريات؛ يتأنسن ويحمل هويّة وملامح وذاكرة تنمو وتتوسع أفقياً وعموديّاّ، في أركانه تسكن وتتسكع أنفاس وأرواح وأصداء وظلال، وتسري فيه قوة هي قوة الإنسان والحياة الّتي غرسته في فضاءات وجود يتفتق ببراعم المعاني، وتتفتح فيما ورائه أزهار اللاّوعي، أحلامٌ وأحلام يقظة ورهافة مشاعر وصورتتناغم، أصوات وأصداء تتردّد في الأعماق، وخيالات بألوان الطّيّف وسحره ترود عوالمها الأثيريّة… إن أكثر البيوت تواضعاً وفقراً، وأشدها إسرافاً في بذخ العيش يتشاركان رمزية حمايتنا وبثّ الطّمأنينة في دواخلنا، بذكرياتنا البعيدة العميقة ننشرأجنحة الحنين وفضاءات التّوق والخيال، نرتحل إلى بيتنا الأول، وبوجداننا وذاكرتنا القريبة والبعيدة ننغمر في حميميّته مترَعين بالنّشوة، النّشوة المستوطنة وعيَنا وَراقاتِ أعماقنا، فنحتفي بوجودنا أطفالاً ويافعين، ثم مكتملي النّمو والنّضج الجسدي والعقلي والنّفسي.
للبيوت أرواح تأنس بأرواح وظلال وأنفاس ساكنيها، من قضوا ومن بقوا أحياء، منها يستمدّ المكان قوته وجاذبيته وسرَّالحنين المندمج بأزمنة انقضت، لكنها تبقى حاضرة بقوة في الآن، وتستمر في المستقبل مادام المكان شامخاً راسخَ الجذور، منغرساً في انتمائه الأصيل، بأحاسيس شاعرية نحتفظ بذكرياتنا فيه، نحتفي بها ونستعيدها من الماضي بحنين مقدّس، وبوجْدٍ وتوق تتمرأى فيه حيواتنا كشريط مُستعاد، فنستعيد محطات عمريّة عزيزة و ذكريات غافية في أعماقنا، نتفقّد تثبيتاتِ أزمنة ِوفواصل مراحل عيشنا كلّما ضغط واقع قاسٍ بإكراهاته على صدورنا ومشاعرنا.
البيت – الكائن حيّ
يمنح الإنسانُ البيتَ/ المكانَ هويّة، فلا يلبث أن يتعشقها ويتماهى بها، كينونتان تندمجان وتشكلان كينونة أكثر رسوخاً وأفصحَ تجلياً في الحضور. ماالعراقة الّتي لاأجد لها تعريفاً خارج جوّانيّة روحانيّة محضة هي مصدرالإلهام! في العراقة الزّمن لايموت، لايهمس المكان إلينا بذكرياتنا فحسب، بل بحيوات ماضية، قديمة أو مغرقة في القدم، يشرق علينا بالآثار المعرفية والحضارية لمن سبقونا. في صميم العراقة يغرس الحاضر جذوره مستبطناً إشراقتين: إشراقة الماضي برسوخه وشاعريته وهنائه، وإشراقةَ المستقبل بأحلامه آماله وعنفوانه، إنها قوة الحضور بأبعاده الوجوديّة والميتافيزيقية معاً.
العالم بيتنا الكبير
كما أنّ التاريخ الإنسانيّ حافل بالطّغاة وبالنّزعات اللّإنسانيّة المتوحّشة، فإنّه غنيّ بإلإنسان الحضاريّ، عالميّ الحلم والانتماء والفكر في مختلف العصور.وإذْ يضيق المقال بمفكّرين؛ فلاسفة وأدباء وعلماء وسواهم ممّن نظروا إلى العالم بيتاَ كبيراً للإنسانية، فنكتفي بشذرتين عالميّتين تنتميان إلى ذاك الفكر الإنسانيّ السّامي، وليس في وسعنا إلا أن نعِد أنفسنا باسترداد الحلم من معتقل الإنسان المتطوّر تكنولوجيّاً؛ المتخلّف والمتوحّش والمتخلّف حضاريَاً: في (جماليات المكان) للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884-1962) ارتباطاً بقيم وأحاسيس الجمال كما عبّرعنها نقرأ : “البيت جسد وروح، وهوعالم الإنسان الأول.. الوجود أصبح الآن قيمة. الحياة تبدأ بداية جيدة, تبد أمسيّجة محميّة في صدر البيت… إن الشّاعريعرف جيداً أنّ البيت يحمل الطفولة ـ ساكنة بين ذراعيه.
يقول ريكلة: البيت قطعة المرج، ياضوء المساء فجأة تكتسب وجهاً يكاد يكون إنسانياً).. ومايزال الاقتباس من باشلار: (أنت قريب منّا للغاية، تعانقنا ونعانقك…إن البيوت المتعاقبة التي سكنّاها جعلت إيماءاتنا عادية، ولكننا نندهش حين نعود إلى البيت القديم بعد تجوال سنين، أن نجد أدق الإيماءات وأقدمها تعود للحياة).
يقول باشلار أيضاً: قد اكتشفتُ للتوّ الدّلالة الأنثوية لعشّ قائم فوق مفترق غصنين، واتّخذ الحرش دلالة إنسانية. الشّجرة التي نالت شرف استضافتة انخرطت في سره). يالدعوة باشلار الإنسانية الغامرة، الجديرة بالاحترام في وجه زيف عولمي لوّث الفضاء وسدّ منافذ الأفق! الشّذرة الأخرى شاعرالجمال والحبّ الكونيّ والنّزعة الإنسانيّة العالميّة؛ الشّاعرالسّوري ميلياغروس( 140 ق.م — 70 ق.م)، له عدّة مؤلفات في الشّعر، ولعلّ مؤلّفه (الإكليل) أشهرها، جمع فيه باقة من ثمانية وأربعين شاعراً هيلينيّاً ويونانيّاً، واختارلكلّ منهم قصيدة، فكان كتابه برأي النّقاد الأوربييّن أول أنطولوجيا شعرية، وكان ملياغروس رائد الشّعرالسّوري الهيليني والإنسان العالميّ الحضاريّ بامتياز. ولد ميلياغروس في مدينة جدارا (أم قيس الأردنيّة الحالية، على الحد الفاصل اليوم بين الأردن وفلسطين المحتلة)، أمضى حياته المديدة متنقّلاً بين مدينته الأمّ جدارا وبين مدينة صوروأثينا، وحطّ الرّحال في جزيرة كوس اليونانيّة، أتقن اللّغات الآرامية والفينيقيّة واليونانيَة، عاش حالماً بعالم يتسع بحبّ للجميع، عالم هوالحضن الدّافئ للإنسان. يحفل شعر ميلياغروس بالدّفق العاطفيّ وبالحبّ الكبير والتّقدير للإنسان أيّاً كان دينه أو لونه أو عرقه. قبيل وفاته كلّف ميلياغروس النّحاتَ أرابيوس بنقش هذه العبارات على شاهدة قبره: خفف الوطء أيّها الصّديق فبين الموتى الأوفياء يرقد شيخ غمره نوم أبديّ هو مآل كلّ حيّ ميلياغروس بن إيوقراطيس الّذي وصل الحبّ الدّامع والجميل ومنابع الإلهام بالرّحمات المبهجة صُورُ ابنة السّماء وتربة جدارا المقدّسة رعتْه حتّى الشّباب والمحبوبة كوس المريوبيّة أكرمتْ شيخوخته. إذا كنتَ سوريّاً فَ- سلام وإن كنتَ فينيقيّاً فَ- أدوني وإن كنتَ يونانيّاً فَ- خايري ونختم بعبارات من نصّ شعري لميلياغروس؛ هي من خلاصة فلسفته الحالمة بمتّحَد كونيّ، جميل ورحب؛ الإنسان فيه هو القيمة العليا، والعالم هو بيته الكبير وملاذه الآمن:
أنا ميلياغروس سرتُ مع ربّة الشّعر على خطى مينيبوس إن كنتُ سوريّاً فما العجب في ذلك أيّها الغريب! إنّنا نسكن بلداً واحداً هو العالم.
.
*شاعر وكاتب – سوريا
.