الطرب… الحقيقة والخيال.. مراد داغوم

|| Midline-news || – الوسط …
أحياناً، يكون الفرق بين الحقائق وبين الاعتقادات غير المثبتة فرقاً واهياً يصعب تمييزه، ولهذا يبدو “الاعتقاد” وكأنه حقيقة ثابتة عند صاحبه. وهي حالة من الوهم الحميد، بمعنى أنه غير مؤذ، يمكن أن يصيب فرداً، ويمكن أن يحدث عند الجماعات.
مصطلح “طرب” في الثقافة الشرقية هو مثال نموذجي عما أتحدث عنه، فإن أردت البحث عن الكلمة في اللغة والقواميس ستجد المعاني التالية:
اتفقت ثلاثة معاجم وهي: (معجم المعاني الجامع+ المعجم الوسيط + قاموس اللغة العربية المعاصرة) على المعاني التالية:
طَرِبَ (فعل): خَفَّ واهتزَّ من فرحٍ وسرورٍ، أَوْ من حُزْنٍ وغمٍّ، طرب (اسم) خِفَّةٌ وهِزَّةٌ تثير النَّفْسَ لفرحٍ أَو حُزْنٍ أَو ارتياح. خفّ واهتزّ وانفعل من فرح ”طرِب لنجاحه في الامتحان- طرِب من فوزه بالمباراة”.
وفي (القاموس المحيط) فقد قال: طَرَبُ: الفَرَحُ، والحُزْنُ، أو خِفَّةٌ تَلْحَقُكَ، تَسُرُّكَ أو تَحْزُنُكَ، وتَخْصيصهُ بالفَرَحِ وَهَمٌ، والحَرَكَةُ، والشَّوقُ.
وجاء في (مختار الصحاح): التَّطْرِيبُ في الصوت مدُّه وتحسينه، والطَّرَبُ خفة تصيب الإنسان لشدة حزن أو سرور وقد طَرِبَ بالكسر طَرَباً و أطْرَبَهُ غيره و تَطَرَّبَهُ بمعنى.
أما (لسان العرب) فقال: الطَّرَبُ: الفَرَح والـحُزْنُ، وقيل: الطَّرَبُ خفة تَعْتَري عند شدَّة الفَرَح أَو الـحُزن والهمّ. وقيل: حلول الفَرَح وذهابُ الـحُزن.
أما علمياً، فقد ارتأت العرب تسمية العصب اللا إرادي الذي يحرك القلب باسم (الطرب).
وفي اللغة الانكليزية، فمفهوم الطرب غير موجود، وعند البحث في قواميسها ستجد مرادفات، ليس أكثر. تنحصر هذه المرادفات بالمعاني التالية: (بهجة، مرح، سعادة، متعة، لذة، سرور، فرح، نشوة، لهو).
بينما مفهوم “الطرب” الشائع بين موسيقيي الشرق فهو بالغ الغموض، لا يستطيع صاحبه أن يشرحه لك (بحسب قوله)، فإن سألته عن تأثيراته سبح في بحر من التعابير المترادفة التي لا تفيد تحديد المعني بل مجرد توصيفات لما يمر به “هو” من حالات ستفهم أنها “نشوة” من نوع خاص تتعلق بذاتهن وإن وافقه موسيقيون آخرون على ذلك لن تجد “تحديداً دقيقاً” لما يقصدونه أو يتحدثون عنه. وقد قمت بطرح موضوع أتساءل فيه عن تحديد دقيق لهذا المفهوم (تحديداً علمياً موسيقياً بدون عبارات تقليدية توصيفية) في إحدى مجموعات الفيسبوك الموسيقية والتي يديرها علامة موسيقي مرموق وتضم آلاف الموسيقيين من الوطن العربي منذ 18 شهراً، وحتى اليوم كان التفاعل ينحصر بالتالي: (سؤال مهم، نتمنى أن نجيب عنه) !
كل ما سبق هو أمر عادي، يمكن قبوله بسهولة، فهكذا ارتأى أصحاب الإيمان بمفهوم “الطرب” أن يكون إيمانهم، فما المانع؟ فالمنطق، والخلق الكريم يقولان ألا مانع في هذا الإيمان الجميل وأي استنكار له هو “اعتداء” على حرية تفكيرهم واختيار معتقد حول حالة من الغبطة يشعرون بها نتيجة الموسيقا التي “يحبونها“.
يحدث “الاعتداء” عندما يصر أحد المؤمنين بتلك الفكرة على كونها:
1- وحيدة، فريدة، ولا مفهوم آخر سواها.
2- هي المقياس الأوحد ليكون المرء موسيقياً.
3- رفض أي مفهوم آخر مع اتهامات متعددة لأصحابه كالفرنجة، وقلة الاطلاع.
إن كنت لا تشعر بالبهجة والنشوة إلا عند سماعك نمطاً محدداً من الموسيقا أو إلا لموسيقي محدد، ولا يتحرك عصب قلبك اللاإرادي إلا لها أو له، فهذا حق لك. أما عندما تستنكر بهجة ونشوة غيرك عند سماعه نمطاً مختلفاً وتصف ذلك أنه لا يستحق النشوة ولا البهجة (عندما تقول عنه أنه ليس “طربا”) وفي الوقت ذاته أنت لم تستطع تقديم شرح دقيق لمفهوم الطرب لديك، فهذا اعتداء صارخ. يزداد هذا الاعتداء عندما تُصر أيضاً على ربط “مفهوم” الطرب بحيِّز جغرافي كان تقول (مصر أم الطرب)، وهو مجرد مثال لأنني لم أسمعه أو أقرأه من أي مصري.
لفترة طويلة، كنت أنزل من العاصمة إلى مدينتي صباح كل ثلاثاء، الذي كان عطلتي الأسبوعية. وعندما تصل الحافلة إلى مدخل المدينة، وهو شارع عريض جداً ذو اتجاهين، محاط بأشجار السرو على جانبيه. كنت أمرّ بحالة نفسية طيبة، توقٌ للقاء اشخاص أحبهم أو أماكن لها حنين خاص أو غير ذلك من المشاعر الجميلة. اكتشفت بعد ذلك بسنين أنني كنت أختلق الحالة ذهنياً وأعيشها وأصدقها، فأزيد من عنف المشاعر بإيحاء ذاتي أظن أن مّرَدَّه هو رغبة بالوصول إلى هذه الحال المُخَدِّرة لعيش لحظات ممتعة.
وعندما كنت أقترب من “الناعورة” كثيراً، وهي عادة محببة كنت أمارسها غالباً، كنت أقف بصمت كامل متناسياً كل ما حولي، أُركِّز حواسي كلها على ذلك الصوت الهادر ذو التوتر شديد الانخفاض مع تغييرات نغمية قد يصعب على آلة موسيقية تقليدها. كنت بعد عدة دقائق أصل لحالة من النشوة الرائعة بتأثير هذا الصوت الشجي رغم كونه عنيناً، نشوة لا تصل لمثلها ولو شربت “خابية” من الخمر المعتق. هل يشبه هذا ما يتحدث عنه ذلك المفهوم الغامض للطرب؟ بمعنى: هل الطرب هو بديل رخيص قانوني لحشيشة الماريجوانا؟