العناوين الرئيسيةحرف و لون

“الراشونة” .. خليل البدري

لوحة الفنان التشكيلي: د.ميسّر كامل

سحَبَ نفَساً عميقاً جداً ، ونفَث الدخان من أعماق صدره المثخن بالقَطران. قال بعد أن جرّ كلمة “إيه” طويلاً: لم يكن الحب في زماننا كما في زمانكم.. كان فطريّاً ونقياً وعذرياً.. وألذّ وأصدق وأشْبَه بالمغامرة… كان مخاطرة حتى بالحياة.

هو رجل ستيني، أصلع وممتلئ.. له كرش كبير، يُطِلُّ الشَّعرُ اﻷبيض الكثُّ الكثيف على صدره من فانلّته الداخلية .وقد أرخى قميصه المفتوح اﻷزرار.. قال له صديقي “إبراهيم” وهو يضحك: بربِّك، إحكِ لنا قصتك معها، ليسمعها “سيف”. فرد “أبو قاسم” بصوته الخشن، وكأنما يتحفظ على أمرٍ ما في حكاية حبّهِ القديمة جداً: دعك من الماضي.. حكايات ومضت. لكن إبراهيم ضرب على فخذه واحتضنه وألح عليه: أقسم عليك “بها”.. إحكِ لنا قصّتك.

ضحك أبو قاسم، ثم تنهد بعد أن نفث دخان السيجارة، وراح يمرُدُها في المِنفَضة بغصّة. صفَن قليلاً في الحائط.. وكأنّه يراها أمامه: كنت أراها أجمل خلْق الله.. بيضاء كالحليب، وعيناها واسعتان دعْجاوتان تحرُسُهما رموشٌ طويلة، وكفيها كالقطن طراوة، لم تكن كبنات القرية المُتعَبات من العمل والشمس. ثغرها محدد ومرسوم بشكل مدهش وغاوٍ. تضفُر شعرها، لكنها كانت تحُلُّه لي في اللقاءات، فأشُمُّ فيه عبق الجنة.

هنا، برقت عينا أبو قاسم وصمت.. فصمتنا جميعا لثوان. وأكمل: كنتُ في أوائل العشرينات، بعد أن ينتصف الليل ويخيم الهدوء على القرية التي تغفو باكرا.. ﻻ يراودني النوم، فأخرج من دارنا، أظل أترقب ضوء الفانوس الذي قد يطل من تلك الفتحة المربعة العالية في جدار الغرفة الطينية.. كنا نسميها “الراشونة”. تشبه النافذة- الشباك، لكنها أضيق وأعلى. وحين يتحرك الفانوس بضوئه الخافت من بعيد، أعرف أنها رسالة منها بأن الظرْفَ في بيتها يسمح باللقاء بعد أن نام جميع أهلها..

أظل أنتظر لساعات أترقب ضوء الفانوس.. متلهفاً وشغوفاً. وحين أراه، أشعر بقلبي يكاد يفرُّ.. يجَنُّ.. يضطرب نفَسي ونبضي، أتلفت في كل الجهات لئلّا يراني أحد وأنا أتستر بالليل الحالك.. وأتلصّصُ متجاهلاً أشواك الطريق وأحجاره والحُفر. كلما اقتربت تزداد سرعة دقات قلبي، وأرى شبحها بالكاد بعد أن تعيد الفانوس لفِناء الدار.
أحيانا نتهامس من وراء “الراشونة”. تعانق يدي يديها.. ونتبادل الغزل والعواطف، أتحسس جيدها وخدها وشعرها، وربما أنال قبلة تصيبني بالحمى ويكاد يغمى عليها.

قلت لها ذات مرة قبل أن أودعها: في الليلة القادمة سأدخل الغرفة من “الراشونة”، أريد أن أكون معك.. أضمك لصدري.. إلى متى يفصل بيننا هذا الحائط؟!

تمنَّعَتْ، لكن أمام إلحاحي وافقت لليلة أخرى. إنتظرتُ الليلة التالية على جمر. وأنا أحلم بضمها وعناقها، والتزوُّد من رائحتها. ثمة لوعة كانت في صدري ﻻ يسكنّها سوى إحتضانها.. وكنت عفيف النية حقاً.
حين لاحَ ضوء فانوسها، لم أتمالك نفسي، كنت مندفعاً أكثر من كل مرة.. مستعجلاً اللقاء. حين وصلتُ الحائطَ.. همستُ لها بعبارات الحب واللهفة. تشبثتُ بالحائط، ورفعت جسدي كلّه، وأدخلتُ رأسي ونصف جسدي من “الراشونة” حتى صرت عالقاً.. نصفي في الغرفة ونصفي اﻵخر خارجها. ثم، أمسكتْ شَعر رأسي وإنهالتْ على رأسي وظهري، ضرباً بالنعال دون توقّف، وهي تشتمني وتتوعدني بالويل والثبور إن أعدتها…. لقد كانت أمها!.

.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى