الانتخابات التركية .. هل ينتهي السباق في دمشق؟ .. يزيد جرجوس

إن السعي لمحاولة فهم الوجبة السياسية الدسمة التي يتعرض لها ذهن المواطن السوري المعبأ بالانكسارات والخيبات والألم، يبدو معقداً فيما يخص الجبهة التركية التي شكلت التحدي الأكبر للدولة السورية خلال فوضى “الربيع العربي” الذي ركز استهدافه على سوريا، فتركيا لم توغل فقط في دعم المتطرفين والمتمردين على الأراضي السورية، ولكنها أوغلت بماكينتها العسكرية داخل الأراضي السورية حاملة معها كل ما استطاعت من وسائل ومخططات التتريك في انتهاك هائل ليس فقط للسيادة ولكن أيضا للكيان الحضاري العربي السوري.
اليوم وبصورة درامية لافتة توالت التسريبات أولاً والتصريحات بعدها حول “رغبة الرئيس التركي بلقاء الرئيس السوري بشار الأسد” والتي غالباً ما يقال أنها ضمن “تنسيق مع روسيا”. في البداية منذ بضعة أشهر اعتُبرت مثل هذه التسريبات وكأنها “إشاعات إعلامية” تصدرها إما المعارضة التركية أو جهات محسوبة على سوريا، مثل هذه الاعتبارات كانت بدورها تصدر بشكل واضح عن المرتعدين خوفاً من احتمالات المصالحة التركية السورية والتي تعني وأد آخر حصان تراهن عليه القوى المعادية للدولة السورية والتي دأب العالم الغربي على تسميتها “المعارضة السورية” ليس لكي تحقق شيئاً ما فشلت في تحقيقه على مدى 12 عام، ولكن للاستمرار لبعض الوقت الإضافي الذي يشكل لها مصدراً للاسترزاق، مؤخرا أضحت تلك التسريبات واقعاً معلناً من قبل الحكومة التركية، ثم ما لبثت روسيا أن أعلنت أيضا عن تجاوب الرئيس الروسي مع مطلب الرئاسة التركية لعقد لقاء مع الأسد، ووعد بمحاولة تحقيق ذلك.
كثيرة هي الآفاق التي تحملها هذه التحركات الغريبة والتي تبدو على غرابتها مفهومة جداً، فالمجتمع التركي يعاني انقساماً حاداً يتغذى طرفاه من إرهاصات انغماس تركيا في الحرب على سوريا، بحيث يزعم كل منهما بأن هذا الملف هو المسؤول عن تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية في تركيا، ويختلفان في التأويل، فبينما تحاول المعارضة تحميل حزب العدالة وحكومته جريرة كل ذلك لأنه قرر الاعتداء على سوريا والتورط في رمال أزمتها الدولية، حاولت الحكومة لفترة طويلة القول بأن “المعارضة هي المسؤولة عن تردي الأوضاع لأنها بمعارضتها وسلبيتها تفشل المقاربة التركية للملف السوري”. طبعاً عندما يبدأ رأس النظام التركي ممثلاً بالرئاسة التركية بالترويج لمطلب رئيس الدولة للقاء الرئيس السوري، فذلك يعني فيما يعنيه بأن الأجهزة الرسمية التركية بدأت تدرك وتتحسس انزياح الرأي العام التركي تجاه الرواية أو الحجة التي تحملها المعارضة، كما أنها تسلم أكثر وأكثر بأن تلك الحرب والاعتداء على الشمال السوري والتوغل فيه مع كل ما حمله من أعباء انتقال ملايين السوريين إلى الداخل التركي حيث بدأ ذلك بالترحيب والتشجيع، واليوم يبدو أنه ينقلب إلى ضيق ورغبة عارمة بالتخلص منه، يبقى الأهم من هذا وذلك الشبح المرعب الذي ولد من رحم “الإضعاف الممنهج للدولة السورية” على أيدي كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وتركيا بالدرجة الأولى، ألا وهو المشروع الانفصالي الكردي عابر الحدود الرخوة هناك في شمال شرق سوريا وشمال العراق وجنوب شرق تركيا، نقطة تلاقي طموحات بعض الأحزاب الكردية المحسوبة على الولايات المتحدة والتي تدغدغ هذه الأخيرة فيها مشاعر الانفصال المبني على السيطرة على الثروة الوطنية دائماً كطعم يتم من خلاله استجرار مشاريع الخيانة العظمى، مهما بدا حديث “تقرير المصير” و”المشكلة القومية” برَّاقاً لكنه يبقى ريحا لذر الرماد في العيون عن حقيقة المبدأ الاقتصادي الجشع الذي يقف وراء كل تلك المزاعم التاريخية.
هنا في قلب هذا العنوان تكمن واحدة من أهم مشاكل السياسة الأميركية تجاه حلفائها وأدواتها، فهي بالوقت الذي شَغَّلت تركيا بشكل فاعل في مشروعها لإسقاط الدولة السورية، لم تتوانى عن اللعب بورقة الأكراد الأشد إيلاماً لتركيا نفسها، فأنت لا يمكنك أن تأمن الولايات المتحدة ولو وضعت نفسك في أي موقع تجاهها حتى ولو كان الخدمة بالمجان. من هنا نستطيع تفهم تلك الإجراءات والإشارات التركية المتعددة الاتجاهات خلال السنوات الأخيرة من الحرب على سوريا، ومع احتدام الصراع الدولي لحد المواجهة المباشرة في أوكرانيا، فتركيا بادرت إلى الكثير من التنسيق والتجاوب مع روسيا فيما يخص الوضع السوري، وهي برغم عدم التزامها بأغلب ما تم العمل عليه مع الجانب الروسي ولكنها لم تقطع التنسيق وحافظت، بل نمَّت التعاون والعلاقة مع روسيا إلى مستويات لافتة برغم تصاعد المواجهة بين هذه الأخيرة والغرب الذي تشكل تركيا على الأقل جزء عسكرياً منه في حلف الناتو. لا بل ذهبت تركيا إلى ما يصل حدود الشراكة مع روسيا في ملفات الجغرافيا السياسية فيما يخص الحرب والمضائق وفيما يخص الطاقة التي أعلنت هي وروسيا في الأشهر الأخيرة أنها (تركيا) ستكون مقراً ومعبراً لها ضمن التصور الأوراسي الروسي للعالم الجديد المبني على عصب الطاقة والانتاج الآسيويين. فتركيا اليوم تبدو وكأنها تحاول التركيز على وضعها هي بشكل مستقل نوعاً ما عن السياسات الغربية التي كانت دائماً تضع نفسها في خدمتها، وذلك ليس لترف في المبادئ والقيم ولكنه لتلمس دقيق لفوارق التعاطي والالتزام مع الشركاء الذي لمسته بين أميركا وبين روسيا، ولسبب آخر واضح وهو حاجتها الجدية لتسوية الأوضاع على مستوى بيتها الداخلي، وهنا يتسابق كل من الحزب الحاكم والمعارضة في سبيل ذلك، وضمن هذه السياقات الدولية والإقليمية والمحلية برزت قضية السباق بين المعارضة والحكومة باتجاه دمشق.. سباق تحدوه المصالح الانتخابية بالدرجة الأولى، ولذلك تحديداً يتحتم على صانع القرار السوري التمعن كثيراً في تفاصيله، لا بل ودراسته في العمق التركي من مجمل شبكة العلاقات والمصادر التي تملكها دمشق في الداخل التركي المليء بمؤيدي سوريا والتوَّاقين لتحسين العلاقة معها.
من هنا تبرز أهمية الموقف السوري الصامت تجاه المسألة والذي يكتفي بإعلان “الرفض”، رفض القيادة السورية للقاء الرئيس التركي فقط. فدمشق تدرس وهي عليها أن تدرس أولاً البديل عن حزب العدالة والتنيمة والإمكانات والآفاق التي يعد بها وقدرته على تنفيذها، وثانياً الفرص الحقيقية التي يقدمها حزب العدالة لتعويض سوريا عن اعتدائه الكبير عليها خلال الأعوام الطويلة الماضية، فإذا كانت تركيا تطمح للتعاون مع الجيش العربي السوري في ملف ضبط والسيطرة على شمال شرق سوريا بما يضمن وأد المشروع الانفصالي الكردي، فإن أي لقاء سوري تركي بدون شروع تركيا بسحب قواتها من شمال غرب سوريا سيكون عملاً غير صائب وفي غير محله، وهنا تبدو نقطة ارتكاز الرفض السوري لأي لقاء، طبعاً أقول “شروع” لأن إعلان النوايا لم يعد كافياً بالنسبة للساسة السوريين في تعاملهم مع الأتراك لكثرة نار الغدر التي اكتوت فيها العلاقة بين البلدين، والتي كان يفترض أن تكون حماية للإقليم من الدخول في مشروع “الفوضى الخلاقة”، ولكنها تحولت في الواقع إلى بوابة واسعة له.
هنا بصراحة تقف سوريا أمام تحدٍّ في غاية الدقة والحساسية، فالمراهنة على ضغط الوقت الذي يزداد على حزب العدالة الذي يعتبر أن المصالحة مع سوريا هي خشبة خلاصه الانتخابي، أو لنقل بدقة هي ضمانته للفوز بانتخابات تقترب بسرعة كبيرة حاملة مخاطر خروج الحزب الحاكم من السلطة تاركا وراءه تركة كبيرة جداً، ومساحة أكبر لخلفه للاستثمار في إصلاح ما أفسده داخلياً وعلى مستوى الإقليم، بما يعزز التصور بخروج حزب العدالة والتنمية من المعادلة السياسية وربما تفككه كما حدث مع كثير من الأحزاب والقوى التي تفقد دورها الوظيفي الذي كانت موكلة به، هذه المراهنة يجب أن تكون متبصرة جداً ومجتهدة في محاولة فهم الداخل التركي، حتى لا تعطي سوريا خشبة الخلاص لحزب ربما يكون بديله أفضل لها، ولكن لا يجب بالمقابل أن تتأخر في قبول تنازلاته إذا بدأ بالإقدام عليها بشكل جدي، إذ أنه لو قدر له أن يجتاز الانتخابات بدون مساعدة سوريا، فسوف يعود ليكون أكثر شراسة ربما تجاهها، لأنه سيثبت وقتها أن خياره شعبيا كان صائباً وأنه قادر على المواجهة والمضي في سياسته.. فحزب العدالة والتنمية التركي سيكون أكثر قابلية لتقديم التنازلات قبل الانتخابات منه بعدها كما أتصور، وأعتقد أن الكثيرين يفعلون.
إقرأ أيضاً .. بعقل بارد .. من سوريا إلى أوكرانيا ..
إقرأ أيضاً .. من نيكاراغوا إلى سوريا .. سلاح التجويع الشامل ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب